"صفحات من تاريخ مصر" ليحيى حقي
يُعد كتاب "صفحات من تاريخ مصر" للأديب المصري يحيى حقي (١٩٠٥–١٩٩٢) تجميعًا لمقالات تاريخية وأدبية كُتبت في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، تقدّم رؤيةً إنسانيةً لتاريخ مصر الحديث عبر سرد حكائي يجمع بين الدقة الواقعية والأسلوب القصصي الشائق.
ينقل حقي في هذا العمل تفاصيل الحياة اليومية، والتحولات الاجتماعية، والأحداث السياسية من منظور "ابن البلد" الذي عايش مراحلَ فارقةً في تاريخ مصر.
أولًا: محتوى الكتاب وركائزه الرئيسية
يتكوّن الكتاب من مقالات متنوعة، تُقدَّم عبر الفصول التالية:
السياقات التاريخية الكبرى:
تحليل أحداث مثل الاحتلال الفرنسي (١٧٩٨) وثورة ١٩١٩، مع تركيز على تأثيرها في الهوية المصرية.
نقد سرديات المستشرقين والرحّالة الأجانب عن مصر، موضحًا كيف قدّموا صورةً مشوّهةً تعكس نظرة استعمارية.
الحياة اليومية والتراث الشعبي:
وصف حيوي لأسواق القاهرة القديمة مثل سوق العصر وسوق الكانتو وسوق الخيل، التي كانت مراكز للتبادل التجاري والثقافي.
توثيق للأعياد الشعبية (كـعيد الجلاء) والألعاب التقليدية، والتي تعكس روح المجتمع المصري وتقاليده.
شخصيات وتفاصيل غائبة:
قصص عن شخصيات مهمشة مثل ابن القباقيبي (بائع القبعات) وأبو فروة (البسطجي)، تمثل نماذج للصمود في وجه القهر الاجتماعي.
تحليل لعلاقة المصريين بالسلطة، كما في مقال "كيف يتزوج الخديو!" الذي يكشف ترفّ النخب الحاكمة مقابل معاناة الشعب.
التحولات المجتمعية بعد الثورات:
مقارنة بين عهود الملكية ومرحلة ما بعد ثورة يوليو ١٩٥٢، مع إبراز إيجابيات مثل الإصلاح الزرادي، وسلبيات مثل البيروقراطية.
ثانيًا: رؤية يحيى حقي الفنية والفكرية
التاريخ كحكاية إنسانية:
يرفض حقي تقديم التاريخ كسلسلة أحداث جافة، بل يصوّره عبر قصصٍ عن أناس عاديين. على سبيل المثال، في مقال "صندوق عبوة سكر"، يحوّل حدثًا بسيطًا إلى نافذة على حياة الطبقة الفقيرة.
النقد الاجتماعي الساخر:
يستخدم السخرية اللطيفة في فضح التناقضات، مثل وصفه لحفلات الزفاف الملكية الفاخرة مقابل فقر الفلاحين، أو هوس النخب بتقليد الغرب في مقال "ربما سنترافيش أيضًا".
الربط بين الماضي والحاضر:
يشير إلى أن جذور المشكلات المعاصرة (كالفقر والفساد) تعود إلى سياسات تاريخية، مثل التمييز ضد المصريين في الوظائف العامة إبّان الاحتلال العثماني.
اللغة والأسلوب:
يجمع بين اللغة العربية الفصيحة والعامية المصرية، مما يخلق نسيجًا سرديًا حيويًا. يتميز أسلوبه بالجمل الطويلة الغنية بالاستعارات، لكنه يظل سلسًا وجذابًا.
سياق الكتاب وأهميته الثقافية
الخلفية الشخصية للمؤلف:
استفاد حقي من عمله في السلك الدبلوماسي (كالعمل في جدة وإسطنبول وروما) لتكوين رؤية نقدية للمجتمع المصري مقارنةً بالمجتمعات الأخرى. كما أن تجربته القضائية في الصعيد أثرت في تصويره الواقعي لمعاناة الريف.
الرسالة المركزية:
يؤكد أن تاريخ مصر لا يُصنعه الحكام وحدهم، بل عامة الناس الذين يحافظون على تراثها رغم الصعوبات. يظهر هذا جليًا في مقاله عن "دنشواي"، الذي يحول مأساة فلاحين إلى رمز للكبرياء الوطني.
التقاطعات مع أعمال حقي الأخرى:
تتشابه رؤية الكتاب مع روايته الشهيرة "قنديل أم هاشم" في تسليط الضوء على صراع الهوية بين الأصالة والحداثة.
رابعًا: آراء النقاد والقراء
أشاد النقاد بقدرة حقي على "إحياء التاريخ بالحياة"، كما ذكر المستشار محمد سعيد الجمل في مقدمة الكتاب.
بعض القراء وجدوا مقالاتٍ محددةً (خاصة تلك التي كُتبت بعد نكسة ١٩٦٧) متشائمةً أو مكررةً، بينما اعتبر آخرون أنها تعكس صدق رؤيته.
حصل الكتاب على تقييم 3.8/5 على "غودريدز"، حيث أشاد معظم القراء بالأجزاء المتعلقة بالحياة الشعبية، وانتقد قليلون عدم ترابط الفصول.
لماذا يُعد هذا الكتاب مرجعًا أدبيًا وتاريخيًا؟
يقدّم يحيى حقي في "صفحات من تاريخ مصر" نموذجًا فريدًا لكتابة التاريخ، حيث يتحول الماضي إلى حكايةٍ حيةٍ تلامس هموم الإنسان العادي.
هذا الجمع بين العمق التاريخي والحس الأدبي يجعل الكتاب ليس مجرد سجلٍّ لأحداث، بل شهادةً على روح الشعب المصري الذي يصنع التاريخ من بين أنقاض التحديات. تُلخّص مقولة حقي في الكتاب جوهر رؤيته:
"التاريخ ليس حجارةً ميتةً، بل هو دمٌ يجري في عروق الأحياء".
للحصول على نسخة من الكتاب:
النسخة الورقية: تُباع عبر دار نهضة مصر (٤٧١ صفحة، ردمك 9789771442244).
النسخة الصوتية: مُتاحة بـ ١٢ ساعة و٥٠ دقيقة، يُروى فيها الكتاب بصوت الممثل رضوان صوان
0 تعليقات