"حرية الفكر وأبطالها في التاريخ" لسلامة موسى
الأطار الفكري
يُعد كتاب "حرية الفكر وأبطالها في التاريخ" (1927) للكاتب المصري سلامة موسى (1887-1958) عملاً تأسيسياً في الفكر التنويري العربي.
يقدم الكتاب رؤية نقدية لتاريخ الصراع بين العقل والسلطة عبر الحضارات، مع التركيز على فكرة محورية: "حرية الفكر طاقة إنسانية لا تكتمل إلا بالإفصاح عنها، وكبتها يعذّب صاحبها ويُعيق تقدم المجتمع" .
يفتتح موسى الكتاب بقصة رمزية مقتَبَسة من رواية "التسامح" لهندريك فان لون، تصور قرية محاصرة بـ"هضاب الجهل"، حيث يُرجم مغامر تجرأ على تسلّق الجبال وكشف حقائق جديدة، لتمثيل صراع الإنسان الأبدي ضد الجمود الفكري.
الفكرة الأساسية:
الدين مقابل السلطة: "الدين في ذاته لا يمكن أن يضطهد، وإنما ينشأ الاضطهاد من السلطة المستعينة بالدين".
دور الجمهور: الجماهير تفضّل المألوف وتقاوم التجديد بسبب الخوف أو المصالح.
الشهوة التطورية: تَقدُّم المجتمعات يُحركه دافعٌ أقوى من شهوة الطعام أو المال؛ إنه "شهوة التطور" التي تدفع المفكرين للتضحية بأرواحهم.
حرية الفكر في العصور القديمة
1. الحضارة الإغريقية: النموذج الأول للتحرر
عوامل التحرر:
تعدد الآلهة وضعف سلطانها المُطلَق مقارنة بإله اليهود.
عدم تحويل الدين إلى شريعة ملزمة، مما منع جمود الحكومة.
سقراط نموذجاً: دافع عن حق الإنسان في التفكير بحرية: "ليس لأحد الحق أن يملي على الآخر ما يؤمن به".
2. المسيحية والصراع مع السلطة
القرن الرابع نقطة تحول: تحول المسيحية من دين مضطهد إلى دين مسيطر، وانقسام التاريخ إلى عصرين: 800 عام من التفكير الحر، وعصر لاحق من القمع.
أدوات القمع:
محاكم التفتيش: نشأت لمحاربة "المانوية" (حركة دينية توفيقية) وأصبحت أول أداة منظمة لعقاب المخالفين.
البابوية: تحول أسقف روما إلى سلطة دنيوية بعد نقل عاصمة الإمبراطورية إلى القسطنطينية.
تطور قيود الفكر في العصور القديمة
الحضارة | آليات حرية الفكر | أدوات القمع | الأبطال/الضحايا |
---|---|---|---|
الإغريق | فصل الدين عن التشريع - الفلسفة الحرة | محاكمة سقراط | سقراط |
المسيحية المبكرة | تسامح نسبي | محاكم التفتيش - البابوية | جون هيس (أُعدم 1415) |
الإسلام المبكر | التسامح مع أهل الكتاب | توحيد السلطة الدينية والسياسية | الحلاج - ابن حنبل |
حرية الفكر في الإسلام
1. السلطة الدينية والسياسية
الخلافة كهنة وسياسة: يرفض موسى فكرة أن الخلافة منصب مدني خالص، مؤكداً أنها جمعت السلطتين الدينية والدنيوية.
التسامح الانتقائي:
نماذج إيجابية: تسامح مسلمي الأندلس مع النصارى (اعتماد يوم الأحد عطلة) - تعيين الأقباط في الوزارة بمصر.
نماذج سلبية: محو النصرانية واليهودية من جزيرة العرب بأمر عمر بن الخطاب بدوافع سياسية.
2. العلوم والفنون: الإنجازات والقيود
دور الجسر الحضاري: نقل المسلمين علوم الإغريق إلى أوروبا، مع إضافة النزعة العلمية التطبيقية.
القيود الدينية والبدوية:
منع التشريح: "جعل الطب أسخف لعبة لُعِب بها في التاريخ العربي".
تحريم الفنون: النحت والغناء حُكم عليهما بالانحطاط لارتباطهما بـ"لهو السكارى".
3. اضطهاد الفلاسفة والمفكرين
ابن رشد (1126-1198): حُظرت فلسفته، واقتيد إلى قرية صغيرة قرب قرطبة، وأحرقت كتبه.
السهروردي (1154-1191): أُعدم في حلب aged 36 بعد وشاية الفقهاء لصلاح الدين الأيوبي.
الحلاج: قُتل بسبب أفكار الصوفية الجريئة.
العصور الحديثة وأبطال النهضة
1. اختراع المطبعة: الثورة الأولى
تأثير مضاد للرقابة: عندما أصدرت الكنيسة قوائم "الكتب الممنوعة"، ازداد الإقبال عليها.
حرق الكتب: ممارسة شائعة في العالم الإسلامي أيضاً، كما حدث مع 400 مخطوطة لابن حزم.
2. أبطال التحرر الفكري في الغرب
جاليلو (1564-1642): أُجبر على التراجع عن نظرياته الفلكية أمام محكمة التفتيش.
فولتير (1694-1778): "الملك يفاخر بصولجانه، وأنا أفاخر بقلمي" - كتب 70 كتاباً دفاعاً عن الحرية.
داروين: طرح نظرية التطور كضربة للفكر الدوغمائي.
3. الثورات الفكرية الكبرى
البروتستانتية: احتجاج على صكوك الغفران وتعنت الكنيسة، مدعومة من حكام شمال أوروبا الراغبين في التحرر من البابوية.
الثورة الفرنسية (1789): إعلان مبادئ المساواة وحرية الصحافة والدين.
تبرير الحرية الفكرية ومساهمات سلامة موسى
1. الأسس الفلسفية للحرية
الطاقة الكامنة: الفكرة "قوة من قوى الذهن" تتعذب إن حُبست، وتُطلق طاقتها عند التعبير عنها.
أعداء الحرية:
كسل الإنسان عن تغيير المألوف.
خوف السلطة من فقدان الامتيازات.
جهل الجمهور.
2. رؤية موسى للنهضة العربية
مشروعه التنويري: دعوته لتبسيط اللغة العربية ورفض "البلاغة المفخخة" لصالح "حياة بليغة".
نماذج محلية:
محمد عبده وفرح أنطون: صراع فكري حول علاقة الإسلام بالمسيحية.
طه حسين: معركة كتاب "الشعر الجاهلي".
3. الإرث الفكري لموسى وتأثيره
السياق الشخصي: تأثره بداروين وماركس أثناء دراسته في أوروبا (1906-1910)، وانضمامه للجمعية الفابية الاشتراكية.
هجوم الخصوم: اتهامه بـ"معاداة الإسلام" و"ضعف العربية" من قبل العقاد والرافعي.
الرسالة الخالدة: "أسوأ ما تُصاب به أمة أن يتحد الدين مع الاستبداد".
أبرز أبطال حرية الفكر عبر العصور كما قدّمهم موسى
البطل | المجال | التضحية | الدور التاريخي |
---|---|---|---|
سقراط | الفلسفة | الإعدام بالسم | الدفاع عن حق السؤال |
ابن رشد | الفلسفة | النفي - حرق الكتب | تجديد فلسفة أرسطو |
جاليلو | العلم | السجن - التراجع القسري | تأكيد مركزية الشمس |
فولتير | الأدب والفلسفة | النفي - المنع | الدفاع عن التسامح |
طه حسين | النقد الأدبي | الهجوم المؤسسي | تحديث الدراسة الأدبية |
القراءة النقدية
يختتم سلامة موسى كتابه بدعوة جريئة لتحرير العقل من "الخرافة والغيبيات" وتبني "ثقافة علمية تعم الشعب".
ورغم الانتقادات التي توجه له (كتركيزه على الجانب السلبي في التاريخ الإسلامي)، يظل الكتاب مرجعاً في تحليل آليات قمع الفكر، لا سيما في ربطه المتكرر بين:
السلطة الدينية والسلطة السياسية.
المصلحة الاقتصادية واضطهاد المخالفين.
الجمود الفكري والتخلف الحضاري.
في عالم اليوم (2025)، حيث تستمر معارك حرية التعبير ورقابة الإنترنت، يكتسب الكتاب راهنية جديدة.
فتحذير موسى من "اتحاد الدين مع الاستبداد" ، وتحليله لتحول الأفكار المحرّمة إلى ممنوعة ثم إلى مقبولة (كمطبوعات عصر النهضة)، يقدّم أدوات لفهم صراعاتنا المعاصرة.
الكتاب ليس سرداً تاريخياً فحسب، بل بياناً فلسفياً يؤكد: حرية الفكر ليست ترفاً، بل شرطٌ لبقاء الإنسان إنساناً
0 تعليقات