المريخيون- القصة الحقيقية لجنون الكائنات الفضائية الذي اجتاح أمريكا في مطلع القرن العشرين

المريخيون- القصة الحقيقية لجنون الكائنات الفضائية الذي اجتاح أمريكا في مطلع القرن العشرين

 

المريخيون: القصة الحقيقية لجنون الكائنات الفضائية الذي اجتاح أمريكا في مطلع القرن العشرين

 "The Martians: The True Story of an Alien Craze that Captured Turn-of-the-Century America" لديفيد بارون

 هوس جماعي بسكان المريخ

يروي كتاب "المريخيون: القصة الحقيقية لهوس جماعي بالكائنات الفضائية اجتاح أمريكا في مطلع القرن" للكاتب والعالم الصحفي ديفيد بارون، قصةً تاريخيةً فريدة عن فترة انتشر فيها الاعتقاد بوجود حياة ذكية على كوكب المريخ، وسيطرت هذه الفكرة على مخيلة الجمهور الأمريكي والعالمي لفترة ليست بقصيرة.

يعتمد بارون في سرده على أبحاث تاريخية موسعة ووثائق ورسائل وصور فوتوغرافية نادرة، ليعيد بناء هذه الحقبة التي امتزج فيها العلم بالخيال والرغبة البشرية العميقة في اكتشاف كوننا. 

يوضح الكتاب كيف يمكن لفكرة واحدة، حتى وإن كانت خاطئة، أن تشعل خيال أمة بأكملها وتؤثر على مسار الثقافة والعلوم.

بيرسيفال لويل.. الرجل الذي رأى ما لم يكن موجوداً

يضع بارون عالم الفلك بيرسيفال لويل في قلب هذه القصة. كان لويل من عائلة أرستقراطية ثرية من بوسطن، وخريج جامعة هارفارد المرموقة. أسس مرصد لويل في فلاغستاف، أريزونا، عام 1894، على أرض مرتفعة أطلق عليها اسم "تلة المريخ".

باستخدام تلسكوب متطور في ذلك الوقت، وجه لويل كل جهوده نحو مراقبة المريخ. وبسبب مجموعة من العوامل - قوة تلسكوبه المحدودة، وظروف الغلاف الجوي، والأهم من ذلك، إيمانه الراسخ مسبقاً بوجود حياة على الكوكب - بدأ يرى شبكة معقدة من الخطوط المستقيمة على سطحه. 

فسّر هذه الخطوط على أنها قنوات مائية صناعية ضخمة بناها سكان الكوكب لنقل المياه من القمم الجليدية القطبية إلى المدن والواحات في المناطق القاحلة.

طور لويل نظرية كاملة مفادها أن المريخ هو موطن لمجتمع فاضل ومتقدم تكنولوجيا يحارب ظروف الجفاف القاسية.

 كان لويل مقتنعاً تماماً باكتشافاته، وأعلن في عام 1896: "ليس هناك أدنى شك في أن الكائنات الحية تسكن عالمنا المجاور". 

تمتع لويل بموهبة خطابية فذة، وكانت محاضراته في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) تجذب حشوداً كبيرة، ويقدم أفكاره بثقة عالية ومنطق يبدو مقنعاً، مما جعل الكثيرين، علماء ومثقفين، يؤمنون برؤيته.

من قاعات العلم إلى الشارع العام.. كيف انتشر الوباء

لم تبقَ أفكار لويل حبيسة الأوساط العلمية. انتقل الهوس بالمريخيين بسرعة مذهلة إلى الثقافة الشعبية. في البداية، تعامل الناس مع الفكرة على أنها نوع من الغرابة والطرافة، فظهر المريخيون كشخصيات في عروض مسرحية على مسارح برودواي، وتساءل علماء الأحياء بشكل جدلي عما إذا كانت هذه الكائنات تمتلك أجنحة أم خياشيماً للتنفس.

ولكن سرعان ما تحول النقاش من الترفيه إلى الجدية المطلقة. ادعى المخترع العبقري نيكولا تيسلا أنه تلقى إشارات راديو غامضة يعتقد أنها قادمة من المريخ. حتى أن ألكسندر جراهام بيل، مخترع الهاتف، صرح بأنه "لا مفر من الاقتناع" بوجود كائنات ذكية تسكن الكوكب المجاور.

بلغ الهوس ذروته عندما موّل لويل رحلة استكشافية بقيادة ديفيد تود، رئيس قسم الفلك في كلية أمهرست، وزوجته مابيل لوميس تود، إلى صحراء أتاكاما في تشيلي، وهي واحدة من أكثر الأماكن جفافاً على الأرض، لتصوير المريخ في ظروف غلاف جوي مثالية. 

وعلى الرغم من أن الصور التي التقطتها البعثة كانت ضبابية وغير حاسمة، إلا أن الصحف الأمريكية احتفت بها على أنها "دليل قاطع" على وجود القنوات، مما زاد من تأجيج الهوس الجماعي.

يرجع بارون سبب هذا الانتشار السريع إلى ظاهرة ثقافية واجتماعية أكبر: ظهور ثقافة شعبية موحدة في أمريكا للمرة الأولى. 

فمع تحسن وسائل النقل والاتصالات، أصبح الناس من مختلف أنحاء البلاد يستهلكون نفس السلع، ويقرؤون نفس الصحف والمجلات، ويستمعون لنفس الأخبار. بعض هذه الصحف، في سعيها للحصول على سبق صحفي ومبيعات، كانت تنشر أي ادعاءات مذهلة حول الكواكب والكائنات الفضائية دون التحقق من صحتها بشكل كافٍ.

الأصوات المعارضة ونقد النظرية

لم يكن الجميع مقتنعاً بنظريات لويل. واجهت أفكاره معارضة شديدة من عدد من علماء الفلك البارزين.

من أبرز المعارضين كان إدوارد والتر ماوندر، عالم الفلك البريطاني. أجرى ماوندر تجربة ذكية للغاية لفهم كيف يرى لويل وغيره هذه الخطوط. قام بعرض رسم لبقع غير محددة الملامح على تلاميذ في مدرسة، وطلب منهم نسخه من على بعد.

 لاحظ ماوندر أن العديد من التلاميذ رسموا خطوطاً مستقيماً رغم عدم وجودها في الرسم الأصلي. كانت هذه التجربة محاولة مبكرة لفهم الظاهرة النفسية التي تدفع العقل البشري إلى رؤية أنماط وشبكات (مثل الوجوه في السحب) حيث لا وجود لها، وهي ظاهرة نعرفها اليوم باسم "باريدوليا".

كما شكك عالم الفلك الفرنسي كميل فلاماريون، الذي كان في البداية من مؤيدي فكرة القنوات، في دقة ملاحظات لويل المبالغ فيها. 

حتى جيوفاني شيابارلي، العالم الإيطالي الذي صاغ مصطلح "canali" (بمعنى ممرات مائية طبيعية) عام 1877، والذي أساءت الترجمة الإنجليزية تحويله إلى "canals" (بمعنى قنوات صناعية)، حاول لاحقاً التراجع عن التفسير الخاطئ لأفكاره والابتعاد عن نظريات لويل المتطرفة.

كانت الحجة الأقوى ضد لويل هي التقدم التكنولوجي. مع تطوير تلسكوبات أكثر قوة، مثل التلسكوب العاكس الذي يبلغ قطره 60 بوصة على جبل ويلسون في كاليفورنيا، أصبح بإمكان علماء الفلك التقاط صور فوتوغرافية أكثر وضوحاً للمريخ. 

هذه الصور، التي التقطت في ظروف غلاف جوي ممتازة، لم تظهر أي أثر للخطوط المستقيمة التي ادعى لويل رؤيتها. بدأت الأدلة الموضوعية تدحض الأدلة الذاتية القائمة على الملاحظة البصرية المباشرة.

تراجع النظرية وموت لويل.. ولكن استمرار الإرث

ببطء، ولكن بثبات، بدأت حالة الهوس بالتراجع مع تراكم الأدلة العلمية التي تنقض وجود القنوات. تحولت حياة لويل من النصر إلى المأساة. 

الهجمات النقدية اللاذعة من زملائه العلماء، الذين رأوا في أساليبه غير العلمية وتشبثه بمعتقداته تهديداً لمصداقية علم الفلك، اكتسبت زخماً وأدت في النهاية إلى تحطيم سمعة الرجل ونظريته على السواء.

توفي بيرسيفال لويل في عام 1916 وهو منبوذ علمياً، ومتمسك بأوهامه حتى النهاية. ولكن، كما يجادل بارون، الهوس الذي ساعد على إشعاله لم يمت بموته. 

لقد انتقلت فكرة المريخ من مجال العلم إلى مجال الأسطورة والخيال.

 لماذا آمنا بالمريخيين؟

يتعمق بارون في الأسباب الكامنة وراء هذا الهوس الجماعي. لم يكن الأمر مجرد خطأ علمي، بل كان ظاهرة نفسية واجتماعية معقدة.

يشير الكاتب إلى أن فكرة وجود مجتمع فاضل على المريخ كانت تروق للجمهور الذي كان يعيش في خضم التحول الصناعي السريع والتغيرات الاجتماعية العميقة في مطلع القرن. 

كانت المدن الأمريكية تكبر بسرعة، وكانت المصانع تنتج التلوث، وكانت الحياة تبدو لبعض المثقفين مادية بشكل مفرط. أصبح المريخ لوحة فارغة يمكن للناس أن يوا عليها آمالهم ومخاوفهم وأوهامهم. كان مجتمعاً مثالياً يحارب الطبيعة ويبني مدينة فاضله ، وهي فكرة جذابة للغاية.

كانت رؤية لويل حالة كلاسيكية مما نسميه اليوم "انحياز التأكيد"، أي الميل إلى تفسير الأدلة الجديدة على أنها تؤكد معتقداتك أو فرضياتك الموجودة مسبقاً.

لم يكن لويل يحاول خداع أحد؛ لقد كان يؤمن إيماناً راسخاً بأنه يرى ما قاله للصحف. الفرق الدقيق بين ما رآه لويل "حقاً" وما تخيل أنه رآه، هو موضوع أساسي في  الكتاب.

 من الخيال إلى استكشاف الفضاء

على الرغم من دحض النظرية علمياً، إلا أن هوس المريخ ترك إرثاً دائماً عميقاً.

  1. ولادة الخيال العلمي: لقد غذى هذا الهوس جنساً أدبياً ناشئاً هو الخيال العلمي. كان هربرت جورج ويلز أشهر مثال على ذلك، حيث نشر روايته الشهيرة "حرب العوالم" في 1897، والتي تصور غزو المريخيين للأرض.
    ومن المثير للاهتمام، كما يكشف بارون، أن ويلز ولويل التقيا بالفعل في بوسطن عام 1906 وناقشا أفكارهما حول الكوكب الأحمر.

  2. دفع استكشاف الفضاء: يجادل بارون بأن الإثارة التي ساعد لويل في توليدها مهدت الطريق في النهاية للاستكشاف الروبوتي الحقيقي للمريخ. لقد زرعت فكرة أن هذا العالم المجاور هو مكان يمكن زيارته ودراسته وفهمه.
     الرغبة في معرفة الحقيقة عن المريخ هي التي دفعت البشر لإرسال مركبات مثل "فايكنغ" و"كيوريوسيتي" و"برسيفيرنس" إلى سطحه.

  3. الوجهة المستقبلية للبشرية: اليوم، لا يزال الكوكب الأحمر يتمسك بخيال الجمهور. الكثيرون يرون في المريخ مصير الحضارة البشرية - الخطوة الأولى نحو أن نصبح نوعاً بين الكواكب.
     الأحلام التي بناها لويل، وإن كانت خاطئة، إستكمالا للإلهام أجيالاً من العلماء والمهندسين والمبتكرين.

 انعكاسات في مرآة حمراء

يختتم ديفيد بارون كتابه بتأملات عميقة. قصة هوس المريخيين ليست مجرد فضول تاريخي طريف؛ إنها قصة تحذيرية عن قوة المعتقد، ومخاطر انحياز التأكيد، ودور الإعلام في تشكيل الفهم العام للعلم. إنها تذكرنا بأن العقل البشري ميال بشكل طبيعي لرؤية الأنماط وسماع الإشارات حيث لا يوجد سوى الضوضاء العشوائية.

كما أنها قصة عن الرغبة الإنسانية الأبدية في الاستكشاف وإيجاد  في الكون. المريخ، ببعديه وغموضه، كان وما يزال مرآة حمراء نعكس عليها صورتنا الخاصة: آمالنا في المستقبل، ومخاوفنا من التكنولوجيا، وإيماننا بالعلم، وتوقنا إلى معرفة ما إذا كنا وحدنا في هذا الكون الشاسع.

يقدم كتاب "المريخيون" اً رائعاً للرجل الذي حول المريخ إلى بقعة حمراء في السماء يمكن للجميع تفسيرها كما يشاءون. يظهر كيف يمكن للمعتقدات الخيالية أن تنتشر في عصر ما قبل وسائل التواصل الاجتماعي، ويبرز الخلود الدهر لافتتاننا المشترك بالنجوم وما وراءها.


إرسال تعليق

0 تعليقات