أوغسطين الأفريقي

أوغسطين الأفريقي

 

 "Augustine the African" لكاثرين كونيبير

مقدمة: إعادة اكتشاف أوغسطين الأفريقي

يعد كتاب "Augustine the African" للباحثة كاثرين كونيبير (الصادر عام 2025) عملاً مهماً في الدراسات الأوغسطينية، حيث يركز على جانب طويل تم إغفاله في حياة وفكر أحد أهم اللاهوتيين في المسيحية الغربية: هويته الأفريقية.

 تعيد كونيبير، وهي أستاذة في الدراسات الكلاسيكية واليونانية واللاتينية في كلية برين ماور، تصوير أوغسطين ليس كشخصية أوروبية محضة، بل كرجل ولد وعاش معظم حياته في شمال أفريقيا (ما يعرف الآن بالجزائر وتونس)، متأثراً ثقافياً واجتماعياً وسياسياً بهذه البيئة. 

الكتاب يُعتبر مراجعة تاريخية وجغرافية تهدف إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة التي طالما صورت أوغسطين كأوروبي، متجاهلة جذوره الأفريقية العميقة .

 الإطار التاريخي والجغرافي لأوغسطين

الخلفية الأفريقية لأوغسطين

وُلد أوغسطين في ثاغاست (حاليًا سوق أهراس في الجزائر) عام 354م، وكانت جزءًا من مقاطعة نوميديا الرومانية.

 كانت هذه المنطقة مزدهرة ثقافيًا واقتصاديًا، لكنها ظلت على هامش الإمبراطورية الرومانية. تؤكد كونيبير أن أفريقيا الرومانية لم تكن مجرد امتداد لروما، بل كانت كيانًا له خصائصه المميزة، حيث تتعايش الثقافات اللاتينية والبونيقية والأمازيغية.

 كانت والدة أوغسطين، مونيكا، على الأرجح من أصل أمازيغي، بينما كان والده من الرومان. هذا المزيج الثقافي شكل هوية أوغسطين المبكرة .

التأثيرات الثقافية واللغوية

يتناول الكتاب التنوع اللغوي في شمال أفريقيا الرومانية، حيث كان اللاتينية هي لغة النخبة، بينما كانت اللغات البونيقية والأمازيغية منتشرة بين العامة.

 على عكس بعض المعاصرين، لم ينظر أوغسطين بازدراء إلى هذه اللغات، بل اعترف بأهميتها في التواصل مع الجمهور الأوسع. تستشهد كونيبير بمواقف عديدة من خطبه وكتاباته حيث أظهر تفهمًا للتنوع الثقافي في مجتمعه .

 أوغسطين في "الاعترافات": السيرة الذاتية كتعبير عن الهوية

رواية الحياة المبكرة

في الجزء الأول من الكتاب، تحلل كونيبير سيرة أوغسطين الذاتية في "الاعترافات"، لكنها تقدم قراءة جديدة تركز على عناصر "الأفريقية" فيها. 

على سبيل المثال، تلفت الانتباه إلى مناقشة أوغسطين لـ "الإنيادة" لفيرجيل، حيث يعبر عن تعاطف مع ديدو، ملكة قرطاج الأفريقية، التي تخلى عنها إينياس. هذا التعاطف، كما ترى كونيبير، يعكس وعيًا بأفريقيا ككيان مستقل وليس مجرد تابع لروما .

الهوية كغريب ونزيه

تؤكد كونيبير أن أوغسطين كان دائمًا يشعر بأنه "غريب ونزيه" (Insider-Outsider) – فهو روماني من الناحية القانونية والثقافية، لكنه أفريقي يجابه التمييز والاستعلاء من الإيطاليين.

 عندما ذهب إلى إيطاليا للتدريس في روما وميلانو، استُهزئ بلهجته الأفريقية في اللاتينية، مما منعه من تحقيق نجاح كبير كمعلم للبلاغة. هذه التجربة عمقت شعوره بالاغتراب وساهمت في تطوير نظريته عن الوجود البشري كـ "ترحال" أو رحلة روحية .

الصراعات الكنسية والسياسية في أفريقيا

مجمع قرطاج والجدال الدوناتي

 الجزء الثاني من الكتاب هو الأكثر إثارة، حسب بعض المراجعات، حيث يركز على مجمع قرطاج عام 411 والصراع مع الدوناتيين. الدوناتيون كانوا حركة انشقاقية أفريقية تؤمن بـ "كنيسة نقية" منفصلة عن الكنيسة الجامعة التي تعاونت مع الاضطهاد الروماني.

 قاد أوغسطين الهجوم ضدهم، مدافعًا عن مفهوم الكنيسة العالمية، حتى إذا استلزم ذلك استخدام القوة الإمبراطورية. 

تظهر كونيبير كيف أن هذا الصراع كشف عن التناقض في هوية أوغسطين: فهو من نادة يدافع عن الوحدة مع روما، ومن ناحية أخرى هو أفريقي يتفهم مطالب الدوناتيين المحلية .

إشكالية استخدام القوة

تناقش كونيبير بإسهاب موقف أوغسطين المثير للجدل في استخدام القسر الإمبراطوري ضد الدوناتيين. كانت هذه نقطة تحول في فكره، حيث انتقل من الدعوة للإقناع بالحجة إلى قبول التدخل الدولة. تشرح كونيبير كيف أن هذه الإشكالية نابعة من شعوره بالانتماء المزدوج: كأسقف ملتزم بوحدة الكنيسة، وكأفريقي يدرك تعقيدات السياق المحلي .

 التحديات اللغوية والبلاغية في التواصل

متعدد اللغات والجماهير

في الجزء الثالث، تستعرض كونيبير مهارات أوغسطين كلغوي وبلاغي. كان عليه التحدث إلى جماهير تتحدث اللاتينية والبونيقية واليونانية، من مختلف الطبقات الاجتماعية.

 على عكس معاصريه مثل جيروم، الذي نظر بازدراء إلى اللغات غير اللاتينية، كان أوغسطين أكثر انفتاحًا. تذكر كونيبير مناظرة بينه وبين جيروم حول ترجمة كلمة "يقطينة" في سفر يونان، حيث انتهى جيروم بإهانة أفريقية أوغسطين.

مثل هذه الهجمات كانت شائعة في النقاشات اللاهوتية، وتكيف كيف كان ينظر إليه كـ "آخر" في العالم الروماني .

الهجمات الشخصية على هويته

تسلط كونيبير الضوء على حوادد أخرى حيث استخدم الخصوم، مثل بيلاجيوس وجوليان الإكليريكي، التلميحات العنصرية حول أصله الأفريقي لهزيمته في الجدال. 

على سبيل المثال، خلال النقاش حول الخطيئة الأصلية، لجأ جوليان إلى التعليقات الجارحة حول "أفريقية" أوغسطين. هذه الهجمات لم تكن فقط شخصية، بل شكلت طريقة رؤيته للعيش ونفسه .

 سقوط روما وتأليف "مدينة الله"

الرد على سقوط روما

يركز الجزء الأخير من السيرة على فترة ما بعد سقوط روما عام 410، وكيف استجاب أوغسطين بهذا العمل العظيم "مدينة الله"

 يقول كونيبير بأن هذا Text هو حيث يظهر وضع أوغسطين الغامض – كأفريقي وروماني، كغريب ونزيه – بشكل كامل. 

فيه، ينتقد الإمبراطورية الرومانية ويعري هشاشتها، لكنه يقدم أيضًا بديلاً روحياً كمكان للأمل للمتضررين من الأحداث التاريخية .

رؤية لاستعمارية

تشرح كونيبير كيف أن "مدينة الله" لم تكن فقط عملاً لاهوتيًا، بل أيضًا نقدًا للاستعمار الروماني وأيدولوجيته. 

أوغسطين، كأفريقي عانى من التمييز، كان قادرًا على رؤية زيف الادعاءات الرومانية بالتفوق الحضاري. في الوقت نفسه، قدم مفهومًا للانتماء إلى "مدينة الله" التي تتجاوز الحدود الأرضية. هذه الرؤية، كما تقول كونيبير، هي نتاج تجربته كأفريقي مغترب .

ردود الفعل على الكتاب والتقييمات النقدية

استقبال إيجابي من المراجعات

تلقى الكتاب مراجعات متحمسة من مصادر مثل "ذا نيويوركر" و"التايمز ليتراري سوبليمنت"، حيث أشاد النقاد بأسلوب كونيبير السردي الجذاب وعمق بحثها. البعض وصفه بأنه "تحرري" لأنه يقدم أوغسطينًا أكثر إنسانية وتعقيدًا – شغوفًا، ضعيفًا، متعجرفًا، كصديق مخلص وأب محب .

بعض التحفظات

مع ذلك، هناك من أعرب عن تحفظات، مثل القس كالي هاموند، التي خشيت في البداية أن يكون الكتاب يقدم أوغسطين كمناصر حديث للعدالة العرقية. لكنها وجدت أن كونيبير تتجنب التبسيط، وتقدم تحليلاً متوازنًا.

 أيضًا، هناك ملاحظة أن مصطلح "أفريقي" قد يكون مضللًا للقراء المعاصرين، لأن أفريقيا الرومانية كانت مختلفة جغرافيًا وثقافيًا عن أفريقيا اليوم .

الخاتمة: إرث أوغسطين الأفريقي

يختتم كتاب كونيبير بالتشديد على أن أفريقية أوغسطين كانت أساسية لفكره ولاهوته، وليس مجرد حقيقة هامشية. 

من خلال إعادة مركزة أفريقيا في سرد حياته، لا يقدم فقط صورة أكثر دقة للقديس، بل أيضًا يصحح التحيزات الاستعمارية في الدراسات التاريخية التي طالما روجت لأوروبية المسيحية المبكرة.

الكتاب يدعو القارئ إلى إعادة النظر ليس فقط في أوغسطين، بل أيضًا في تاريخ أفريقيا كمهد للمسيحية والفلسفة الغربية .

 نبذة عن المؤلفة والطبعات

كاثرين كونيبير هي أستاذة في كلية برين ماور ومتخصصة في العصور القديمة المتأخرة. لها أعمال سابقة مثل "The Irrational Augustine" و"The Routledge Guidebook to Augustine’s Confessions". الكتاب صادر في طباعات مختلفة: غلاف مقوى، كتاب إلكتروني، وكتاب مسموع .


باختصار، يقدم كتاب "Augustine the African" رؤية جديدة وجريئة لحياة أوغسطين، مركزًا على هويته الأفريقية وتأثيرها على فكره. من خلال البحث الدقيق والسرد القصصي الجذاب، تنجح كونيبير في جعل أوغسطين أكثر إنسانية وأكثر صلة بالمناقشات المعاصرة حول الهجرة والهوية والاستعمار. 

هذا الكتاب هو إضافة يجب قرائتها للباحثين في الدراسات الأوغسطينية، التاريخ الكنسي، والدراسات الأفريقية

إرسال تعليق

0 تعليقات