Carthage: A New History of an Ancient Empire
"قرطاج: تاريخ جديد لإمبراطورية قديمة" لإيف مكدونالد
إعادة اكتشاف حضارة مفقودة
يقدم كتاب "قرطاج: تاريخ جديد لإمبراطورية قديمة" للباحثة والأثرية إيف مكدونالد رؤية ثورية لإحدى أعظم الحضارات القديمة التي طالما ظلمها التاريخ.
هذا العمل الضخم الذي صدر عام 2025 عن دار إبري بريس بطول 368 صفحة، يهدف إلى استعادة الرواية القرطاجية من بروباغاندا الرومان الذين كتبوا تاريخ هزيمة منافسهم العظيم.
تقدم مكدونالد في هذا الكتاب رؤية متوازنة وشاملة لحضارة سيطرت على غرب المتوسط لستة قرون كاملة، مستندة إلى أحدث الاكتشافات الأثرية وتحليلات نقدية للنصوص الكلاسيكية، لترسم صورة حية للمجتمع القرطاجي بكل تعقيداته وإنجازاته .
لقرون طويلة، ظلت قرطاج محصورة في أذهان الناس كعدو شرير لروما، مجرد حضارة قدمت الأطفال قرابين واشتهرت بجنرالها العبقري هانيبال وفيلقه من الفيلة. لكن مكدونالد تحطم هذه الصورة النمطية لتكشف عن إمبراطورية بحرية متطورة، متعددة الثقافات، ومعقدة سياسياً، في ذروة قوتها.
هذا الكتاب ليس مجرد سرد تاريخي تقليدي، بل هو محاولة جريئة لاستعادة الذاكرة التاريخية لحضارة طمست معالمها عمداً، وتذكير العالم بأنه بدون قرطاج، لم تكن روما لتصبح ما أصبحت عليه .
1 السياق التاريخي والمنهجية الجديدة
1.1 لماذا تاريخ جديد لقرطاج؟
يبدأ الكتاب بتفكيك الإرث الروماوي المهيمن على رواية التاريخ القرطاجي. كما يشير فيليب باركر في مراجعته للكتاب، فإن مقولة كاتو الشهيرة "يجب تدمير قرطاج" (Carthago delenda est) قد شكلت المصير التاريخي لصورة قرطاج في المخيلة الغربية. لقد أصر الرومان على كتابة التاريخ من وجهة نظر المنتصر، مما خلق صورة أحادية الجانب لحضارة كانت في الواقع مركزاً للابتكار والتجارة والتبادل الثقافي .
تعتمد مكدونالد على منهجية متعددة التخصصات تجمع بين:
البيانات الأثرية الحديثة من مواقع عبر البحر المتوسط
النقوش البونيقية التي توضح جوانب من الحياة اليومية والهيكل الاجتماعي
إعادة تقييم النصوص الكلاسيكية بوعي نقدي بسياقاتها وأجنداتها
هذا المنهج المتكامل يمكنها من تجاوز التحيزات الرومانية وبناء رواية أكثر توازناً تعيد الاعتبار للجانب القرطاجي من القصة.
1.2 الأصول الفينيقية والتوسع المتوسطي
تتبع مكدونالد الجذور الفينيقية لقرطاج، التي أسستها الملكة عليسة (ديدو) وفق الأسطورة، كمستعمرة من صور في القرن التاسع قبل الميلاد.
تشرح كيف نمت هذه المستعمرة لتصبح قوة بحرية مهيمنة، إنشاء شبكة واسعة من المستعمرات ومراكز التجارة عبر البحر الأبيض المتوسط، من بلاد الشام إلى ساحل المحيط الأطلسي في أفريقيا وأوروبا .
التوسع القرطاجي في غرب المتوسط
المنطقة | المستعمرات/الموانئ الرئيسية | الموارد الاقتصادية | الفترة الزمنية |
---|---|---|---|
صقلية | موتيا، صرقوسة | الزيتون، النبيذ، الحبوب | القرن الثامن - الثالث ق.م |
سردينيا | كالياري، نورا | المعادن، الحبوب | القرن السابع - الثاني ق.م |
إسبانيا | قادس، إيبوسيم | الفضة، القصدير، الرصاص | القرن السادس - الثاني ق.م |
شمال أفريقيا | لبدة، طنجة | الأخشاب، المنتجات الزراعية | القرن السادس - الثاني ق.م |
جزر البليار | إيبوسا | المواد الخام، المرتزقة | القرن الخامس - الثاني ق.م |
2 الحضارة القرطاجية: المجتمع والاقتصاد والثقافة
2.1 النظام السياسي والمؤسسات الديمقراطية
تكشف مكدونالد عن نظام سياسي معقد في قرطاج، يشمل عناصر الديمقراطية والجمهورية التي ربما أثرت على روما. كانت قرطاج تمتلك جمعية شعبية ومجلس شيوخ (يسمى الـ"أديريم") ومحاكم قضائية. وتشير إلى أن المناصب الانتخابية والمحاسبة كانت سائدة، مما يدحض الصورة الرومانية عن حكم أوليغاركي فاسد .
كان الهيكل السياسي القرطاجي يجمع بين العناصر الملكية (ملوك أو قضاة)، والأرستقراطية (مجلس الشيوخ)، والديمقراطية (الجمعية الشعبية). هذا النموذج الهجين من الحكم كان متطوراً بشكل ملحوظ ويشبه في كثير من النواحي النظام الروماني اللاحق، مما يثير احتمال التأثير المتبادل بين الحضارتين .
2.2 الاقتصاد البحرية وشبكات التجارة
ترسم مكدونالد صورة لـ اقتصاد متطور ومعولم بشكل مدهش، . كانت السفن القرطاجية تنقل البضائع من بريطانيا (القصدير) إلى غرب أفريقيا (الذهب والعاج)، ومن جبال الأطلس (أخشاب الأرز) إلى صقلية (الحبوب والنبيذ) .
من أهم إسهامات قرطاج الاقتصادية كان الابتكار في الزراعة. تذكر مكدونالد دليل ماغو الزراعي، الذي كان مرجعاً زراعياً مهماً حتى أن الرومان ترجموه إلى اللاتينية بعد تدمير قرطاج. هذا الدليل شمل تقنيات متطورة في الري وتربية الحيوانات وزراعة الأشجار المثمرة .
2.3 الدين والهوية الثقافية
تتعامل مكدونالد مع الجوانب الدينية بحساسية نقدية، خاصة موضوع التضحيات البشرية (الـ"tophets"). بينما لا تنكر وجود هذه الممارسات، فإنها تضعها في سياقها التاريخي والثقافي، مشيرة إلى أنها كانت ظاهرة محدودة النطاق ومبالغاً فيها بشكل كبير في المصادر الرومانية لأغراض دعائية .
كان المجتمع القرطاجي متعدد الأعراق والثقافات، يجمع بين العناصر الفينيقية والأفريقية واليونانية والإيبيرية.
هذه الهجينة الثقافية أنتجت فناً وممارسات دينية وعادات اجتماعية فريدة، جعل قرطاج حضارة عالمية حقيقية بدلاً من كونها جيبًا معزولًا كما يتم تصويره غالبًا .
3 الحروب البونيقية وإعادة تقييم هانيبال
3.1 الحروب البونيقية من المنظور القرطاجي
تقدم مكدونالد توازنة للحروب البونيقية الثلاثة (264-146 ق.م)، التي دارت بين قرطاج وروما. وبدلاً من مجرد تلخيص الروايات الرومانية، فإنها تعيد بناء التفكير الاستراتيجي القرطاجي، والتنظيم العسكري، والديناميكيات السياسية خلال هذه الصراعات. .
كانت هذه الحروب صراعاً على الهيمنة الاقتصادية في المتوسط . تؤكد مكدونالد أن قرطاج لم تكن تسعى لتدمير روما، بل كانت تحاول الحفاظ على مصالحها التجارية ونفوذها الجيوستراتيجي في وجه التوسع الروماني المتزايد .
3.2 هانيبال: الجنرال الهلنستي
في فصل مخصص لهانيبال، تبنى مكدونالد الأطروحة التي قدمتها في كتابها السابق "هانيبال: حياة هلنستية" (2015).ها هنا، هانيبال ليس مجرد عبقري عسكري معزول، بل هو قائد هلنستي نموذجي - متعدد اللغات، مثقف فلسفياً، ومندمج في الديناميكيات الثقافية والسياسية للشرق المتوسطي .
كان هانيبال، في هذه الصورة الجديدة، مشاركاً في العالم الهلنستي وليس غريباً عنه. لقد تفاعل مع ملوك مثل فيليب الخامس المقدوني وأنطيوخوس الثالث السلوقي بنفس اللغة الدبلوماسية والثقافية، مما يجعله شخصية متكاملة مع عصره مجرد خصم استثنائي لروما .
مقارنة بين الروايتين التقليدية والمعدلة عن هانيبال
الجانب | الصورة التقليدية | صورة مكدونالد المعدلة |
---|---|---|
الخلفية الثقافية | قائد بربري غريب | قائد هلنستي متعدد الثقافات |
الاستراتيجية | عبقري عسكري منعزل | مشارك في الشبكات الدبلوماسية الهلنستية |
الأهداف | تدمير روما بسبب الكراهية | الدفاع عن المصالح القرطاجية في إطار الصراع على السلطة |
الإرث | مجرد خصم روما | شخصية متكاملة مع عالمها المتعدد الثقافات |
4 سقوط قرطاج وتداعياته
4.1 الدمار والإبادة الثقافية
تصف مكدونالد الدمار المنهجي لقرطاج عام 146 ق.م بأدق التفاصيل، مستندة إلى الأدلة الأثرية التي تظهر طبقات الدمار والحرق. لكنها لا تتوقف عند الدمار المادي، بل تتعداه إلى الإبادة الثقافية التي تعرض لها التراث القرطاجي .
قام الرومان ليس فقط بتدمير المدينة، ولكنه قام أيضًا بقمع اللغة والدين والممارسات الثقافية البونيقية بشكل منهجي في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط. وربما كان هذا المحو الثقافي أكثر تدميرا من التدمير المادي، لأنه قطع استمرارية الهوية والذاكرة القرطاجية.
4.2 قرطاج تحت الحكم الروماني
على الرغم من الدمار، تظهر مكدوناند أن التراث القرطاجي استمر تحت الحكم الروماني. أعيد بناء قرطاج كمدينة رومانية وأصبحت مركزاً مهماً في الإمبراطورية، لكن العديد من التقاليد والعادات القرطاجية استمرت في الوجود، على الرغم من أنها غالبًا ما تكون في أشكال رومانية .
العديد من التقنيات الزراعية والإدارية القرطاجية تم تبنيها وتحسينها من قبل الرومان. هذا الانتقال الثقافي يظهر كيف أن انتصار روما لم يكن كاملاً، وأن التراث القرطاجي استمر في التأثير على الحضارة الرومانية ومن خلالها العالم الغربي .
5 إعادة قرطاج إلى مركز التاريخ
يختتم كتاب مكدونالد بدعوة إلى إعادة تقييم مكانة قرطاج في التاريخ القديم. ليست قرطاج مجرد ملحوظة في صعود روما، لكنها حضارة لعبت دورًا محوريًا في تشكيل العالم المتوسطي
5.1 افكار مكدونالد الأساسية
إزالة الطابع الأسطوري عن قرطاج: تقديم صورة تاريخية دقيقة استنادًا إلى الأدلة الأثرية وليس الدعاية الرومانية.
إعادة دمج قرطاج في العالم المتوسطي: تظهر ارتباطاتها ومساهماتها في الحضارة الهلنستية.
تحديد الاستمرارية الثقافية: تتبع تأثير التراث القرطاجي حتى بعد تدمير المدينة.
إعطاء صوت للقرطاجيين: محاولة إعادة بناء وجهة نظرهم بشأن الأحداث بدلاً من الاعتماد فقط على الروايات الرومانية..
الربط بين الماضي والحاضر: إظهار كيف أن فهم قرطاج يساعدنا في فهم ديناميكيات الهيمنة الثقافية والصراع بين الحضارات.
5.2 الأهمية المستمرة لقرطاج
في النهاية، تذكرنا مكدونالد بأن تاريخ قرطاج ليس مجرد فضول أكاديمي، بل له الصله معاصرة عميقة. في عالمنا المعولم حيث تتصادم الحضارات وتتنافس القوى العظمى، فإن قصة قرطاج تقدم دروساً حول كيفية كتابة التاريخ من قبل المنتصرين، وكيف يمكن للهويات الثقافية أن تستمر حتى بعد الدمار السياسي .
الكتاب ليس مجرد سرد تاريخي، بل هو عدالة الفكرية - محاولة لتصحيح الظلم التاريخي الذي تعرضت له حضارة عظيمة، وإعادة الاعتبار لشعب ساهم في تشكيل عالم البحر المتوسط ولم ينل حقه في التقدير بسبب تحيزات أعدائه الذين كتبوا التاريخ .
كما تشير مكدونالد، بدون فهم قرطاج، لا يمكننا فهم روما بشكل كامل، وبدون فهم كلا الحضارتين، لا يمكننا فهم الجذور العميقة للحضارة الغربية. هذا الكتاب هو خطوة مهمة نحو فهم اكثر شمولا ودقة لماضينا
بكتابها "قرطاج: تاريخ جديد لإمبراطورية قديمة"، تكون إيف مكدونالد قد قدمت مساهمة جريئة وأصلية في دراسة العالم القديم، متحدية الروايات التقليدية ومفتحةً آفاقاً جديدة للبحث والتفكير في واحدة من أعظم الحضارات في التاريخ الإنساني
0 تعليقات