التحدث مع ابنتي عن الاقتصاد - أو كيف تعمل الرأسمالية وكيف تفشل

التحدث مع ابنتي عن الاقتصاد - أو كيف تعمل الرأسمالية وكيف تفشل


Talking to My Daughter About the Economy: or, How Capitalism Works—and How It Fails 

التحدث مع ابنتي عن الاقتصاد - أو كيف تعمل الرأسمالية وكيف تفشل

نبذة عن المؤلف والكتاب

يانيس فاروفاكيس هو اقتصادي وسياسي يوني، شغل منصب وزير المالية اليوناني في عام 2015 خلال ذروة الأزمة المالية. 

هو أيضًا أستاذ اقتصاد سابق في عدة جامعات مرموقة ومؤلف لعدة كتب دولية واسعة الانتشار 

عُرف بمواقفه الناقدة لسياسات التقشف الأوروبية وبأسلوبه السلس في شرح التعقيدات الاقتصادية للجمهور غير المتخصص .

أما جاكوب مو فهو المترجم الذي نقل العمل من لغته الأصلية إلى الإنجليزية، مما ساهم في انتشاره عالميًا .

فكرة الكتاب ولدت من رسالة يوجهها فاروفاكيس إلى ابنته المراهقة "زينيا" ليفسر لها كيف يعمل النظام الاقتصادي العالمي. 

كتبه في تسعة أيام فقط، متجنبًا المصطلحات المعقدة، ومؤكدًا على أن الاقتصاد هو في صميمه سياسة، ولا يجب ترك شأنه لـ "الخبراء" وحسب، لأنه يتعلق بقراراتنا الجماعية ومستقبلنا المشترك .

 الأفكار العامة

يقدم الكتاب رحلة تاريخية وتحليلية لفهم جذور الرأسمالية وتناقضاتها. فيما يلي أهم الأفكار التي يناقشها:

1. الفائض الزراعي وجذور عدم المساواة

يؤكد فاروفاكيس أن الثورة الزراعية كانت اللحظة الحاسمة التي زرعت بذور عدم المساواة في المجتمعات البشرية.

 قبل الزراعة، كانت المجتمعات تعيش على الصيد وجمع الثمار، حيث كان من الصيد جمع فوائض كبيرة. لكن مع الزراعة، أصبح لدى البشر للمرة الأولى فائض من الغذاء يمكن تخزينه وإدارته .

هذا الفائض لم يجعل الحياة أسهل فحسب، بل أدى إلى تحولات جذرية:

  • ظهور أنظمة التسجيل والديون: ظهرت الكتابة الأولى كوسيلة محاسبة لتسجيل كميات الحبوب في المخازن العامة .

  • خلق النقود: تحولت هذه السجلات إلى شكل بدائي للنقود والائتمان .

  • بروز السلطة والبيروقراطية: ظهرت طبقة من الناس لم تعد تنتج الغذاء بل أخذت تدير الفائض وتحميه، مما أدى إلى نشوء الدولة والجيش ورجال الدين، الذين عملوا على ترسيخ وتبرير توزيع غير متساوٍ للثروة والسلطة .

يقدم فاروفاكيس مثالًا صارخًا على ذلك بالغزو الأوروبي لأستراليا، حيث أن المجتمعات الأوروبية التي طورت الفائض والأنظمة المعقدة استطاعت استعمار مجتمعات السكان الأصليين التي كانت تعيش في تناغم مع الطبيعة وتمتلك ثروة من التجارب ولكن ليس لديها فائض مادي يتراكم .

2. الصراع بين القيم: السلع مقابل البضائع

يميز فاروفاكيس تمييزًا حاسمًا بين مفهومين:

  • السلع (Goods): هي الأشياء التي تحمل قيمة تجريبية ذاتية، أي قيمتها تكمن في التجربة التي تقدمها لنا. مثل متعة الغطس في البحر، أو الدعابة في نكتة صديق، أو الشعور بالرضا عند التبرع بالدم بلا مقابل .

  • البضائع (Commodities): هي الأشياء التي تنتج بشكل أساسي من أجل قيمة التبادل في السوق، أي سعرها .

المشكلة في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، كما يرى المؤلف، أنها تخلط بين هذين المفهومين بشكل خطير. فنحن نميل إلى تقييم كل شيء علي اساس سعره، معتقدين أن الشيء الأغلى ثمنًا هو بالضرورة الأكثر قيمة.
هذا الخلط يجعلنا نهمل القيم التجريبية العميقة لصالح القيمة المادية السطحية .

يشرح فاروفاكيس كيف أن تحويل التجارب الإنسانية إلى بضاعة يمكن أن يدمر قيمتها الأصلية. على سبيل المثال، إذا بدأت بدفع المال لصديقك ليضحكك، فإن الدافع الحقيقي وراء دعابته قد يختفي. وبالمثل، فإن دفع المال للمتبرعين بالدم قد يقلل من المتعة النابعة من فعل التبرع كايثار .

3. الدَّين: قوة دافعة ومُفرقة

يلعب الدَّين دور القلب النابض في النظام الرأسمالي. يشبه فاروفاكيس الدَّين بشخصية "دكتور فاوست" الذي يبيع روحه للشيطان مقابل القوة والمتعة . فالدَّين هو أداة قوية لخلق الثروة لكنه يأتي بكلفة اجتماعية باهظة.

  • الدَّين كمحرك: خلال الثورة الصناعية، سمح الاقتراض للرواد رواد الأعمال بجلب ثروات المستقبل إلى الحاضر لتمويل مشاريعهم ومصانعهم، مما أدى إلى طفرة في الابتكار والنمو الاقتصادي .

  • الدَّين كمصدر لعدم المساواة: ومع ذلك، أدى هذا النمو القائم على الدَّين إلى خلقت فجوات اجتماعية هائلة. حيث تراكمت ثروات هائلة لأصحاب المصانع بينما عاش العمال في ظروف بائسة.
     كما أن الدَّين العام استخدم لبناء بنى تحتية تخدم لإنشاء الثروة الخاصة، بينما قاوم الأثرياء دفع الضرائب لخدمة هذا الدَّين، مما أدى إلى تحميل الأعباء على كاهل العامة .

4. المصرفيون: السحرة الجدد

يقدم فاروفاكيس فكرة مثيرة للاهتمام حول دور البنوك، فيصفها بـ "السحرة المعاصرين" أو "وكلاء السفر عبر الزمن" . والقدرة السحرية التي يتمتعون بها هي قدرتهم على خلق النقود من لا شيء .

لا يتم خلق النقود بطباعتها بشكل تقليدي، بل الكترونيا من خلال إدخال أرقام في الحسابات البنكية. عندما يمنح البنك قرضًا، فهو لا يسلم المدين أكياسًا من النقود، بل يخلق وديعته بنقرة زر. 

هذه القدرة على خلق الائتمان هي التي تسمح للاقتصاد بالتوسع بسرعة في فترات الازدهار. لكنها أيضًا، عندما تُساء إدارتها أو تُستخدم بجشع، يمكن أن تؤدي إلى فقاعات مالية وأزمات مدمرة، كما حدث في أزمة 2008 .

5. الأتمتة: سيف ذو حدين

يتناول الكتاب تأثير التكنولوجيا والأتمتة على سوق العمل. من ناحية، يؤدي الآلية إلى خفض تكاليف الإنتاج وزيادة الكفاءة، مما يخلق ثروة هائلة 

ولكن من ناحية أخرى، يشكل خطرًا كبيرًا يتمثل في البطالة واسعة النطاق والضيق الاجتماعي، إذا لم تتم إدارته برؤية وإنصاف .

المعضلة الحقيقية، كما يوضح فاروفاكيس، هي أن النظام الرأسمالي يعتمد على استهلاك الجماهير.

 إذا حلت الآلات محل العمال بشكل كبير، فمن سيكون لديه الدخل لشراء البضائع والخدمات التي تنتجها الآلات؟ هذا التناقض قد يقود إلى أزمات اقتصادية عميقة إذا لم نجد طريقة لتوزيع ثمار التقدم التكنولوجي بشكل عادل .

6. الإدارة البيئية: فشل السوق

يوجه فاروفاكيس نقدًا لاذعًا لكيفية تعامل الرأسمالية مع البيئة. يشير إلى ما يعرف بـ "مأساة المشاع"، حيث تميل الشركات والأفراد إلى استغلال الموارد المشتركة (مثل الغلاف الجوي أو مصائد الأسماك) لتعظيم أرباحهم الخاصة، مما يؤدي في النهاية إلى استنزافها وإلحاق الضرر بالجميع .

ويجادل بأن تحويل الطبيعة إلى بضاعة من خلال خصخصة الموارد أو إنشاء أسوق لتبادل انبعاثات الكربون، لا يحل الجوهر المشكلة.

 فالسوق لا يستطيع أن يقدر القيمة الجوهرية الحقيقية للطبيعة، بل يهتم فقط بقيمتها التبادلية. الحل الحقيقي، برأيه، لا يكمن في مزيد من تسليع الطبيعة، بل في إدارة ديمقراطية جماعية للموارد الطبيعية، حيث تتفوق المصلحة العامة على المنفعة الخاصة قصيرة المدى .

  أسلوب الكتاب

  • اللغة البسيطة والواضحة: يشرح مفاهيم معقدة مثل التضخم والكساد باستخدام تشبيهات سهلة الاستيعاب، مثل تشبيهه للسوق النقدي بـ سوق السجائر في معسكر لأسرى الحرب .

  • النهج القصصي والسرد التاريخي: لا يقدم الكتاب نظريات مجردة، بل يحكي قصة تطور الرأسمالية من العصر الزراعي إلى العصر الرقمي، مما يجعله أشبه برواية مشوقة .

  • الربط الوثيق بين الاقتصاد والسياسة: يرفض فاروفاكيز فكرة أن الاقتصاد علم محايد، ويصر على أن كل قرار اقتصادي هو في الحقيقة قرار سياسي يعكس موازين القوى في المجتمع .

  • النظرة النقدية والاستفزازية: لا يخشى المؤلف تحدي الأفكار التقليدية، سواءً عن دور البنوك المركزية أو جدوى سياسات التقشف، مما يدفع القارئ إلى التساؤل والتشكيك في البديهيات .

 الدروس المستفادة

الرسالة الأساسية التي يوجهها يانيس فاروفاكيس إلى ابنته وإلينا جميعًا هي أن النظام الاقتصادي ليس قوة طبيعية ثابتة كالجاذبية، بل هو بناء بشري، وبالتالي يمكننا تغييره إذا اتفقنا على ذلك 

لقد نجح الكتاب في تقديم تاريخ الرأسمالية ونقدها بطريقة تجعل القارئ العادي يشعر بأنه مؤهل لفهم العالم من حوله والمشاركة في النقاشات الكبرى التي تخص مستقبله.

يدعونا الكتاب إلى عدم الخضوع لخطاب "لا بديل"، وإلى إعادة تخيل اقتصاد يضع القيم الإنسانية والتجريبية والبيئية في قلب اهتماماته، اقتصاد تديره بشكل ديمقراطي جماعي لحل تناقضاته، من الفجوة المتسعة بين الأغنياء والفقراء إلى التحدي الوجودي المتمثل في الأزمة البيئية

إرسال تعليق

0 تعليقات