"فن الوجود" لإريك فروم
إريك فروم، الفيلسوف وعالم النفس الإنساني، يقدم في كتابه "فن الوجود" رؤية عميقة لمعنى الحياة وكيفية تحقيق وجود أصيل يتجاوز السطحية والتفاهة. يعالج الكتاب أسئلة جوهرية حول الهوية، الحرية، والبحث عن المعنى في عالم مليء بالتناقضات والمغريات المادية. إليك تحليل مفصل لأبرز أفكار الكتاب:
1. الأسئلة الوجودية والبحث عن الذات
يبدأ فروم بتشجيع القارئ على مواجهة أسئلة عميقة تُعيد تعريف علاقته بوجوده، مثل:
"على من أعتمد؟ ما هي مخاوفي الكبرى؟ ماذا كان مقدرًا لي عندما خُلقت؟"
"من أنا الآن؟ ومن سأكون إذا اتخذت القرارات الصائبة؟" .
هذه الأسئلة تهدف إلى كشف التناقضات بين الصورة التي يريد الفرد أن يراها عن نفسه، وتلك التي يظهرها للآخرين، وبين ما يشعر به كحقيقة داخلية. فروم يؤكد أن الإجابة عليها تتطلب التأمل الذاتي والتركيز، مما يساعد في التمييز بين الاحتياجات الأصيلة والمزيفة التي تفرضها المجتمع .
2. التمييز بين الأصيل والزائف
يرى فروم أن التحدي الأكبر للإنسان هو تمييز الأصيل من المزيف في احتياجاته وقيمه. يوضح ذلك بمثالين:
المنتجات غالية الثمن عديمة القيمة مقابل المتطلبات الفكرية المهملة.
السعي وراء السلطة أو الشهرة مقابل الرغبة في الحب والأمان .
هذا التمييز ليس مجرد اختيارات سطحية، بل هو جوهر فن الوجود، حيث تُبنى الحياة على قيم حقيقية تنبع من الذات، لا من التوقعات الاجتماعية أو الإعلانات الاستهلاكية.
3. نقد التفاهة وثقافة السطحية
يعتبر فروم أن التفاهة – خاصة الحديث التافه – عقبة كبرى أمام الوجود الأصيل. يستشهد بمقولة بوذا:
"لن أشارك في حديث عن الأشياء السخيفة؛ الأكل والشرب والملبس..." .
يرى أن الأحاديث التافهة تُشكّل إنسانًا ضحلًا، بينما الكلام في المعرفة، التواضع، والحكمة يُنقي الذهن ويساعد على مواجهة قسوة الحياة. في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، تزداد كمية "التفاهة" التي نستهلكها يوميًا، مما يُضعف قدرتنا على التفكير النقدي .
4. اليقظة والتأمل كأدوات للتحرر
البديل عن التفاهة هو اليقظة، التي تعني الوعي الكامل بالذات والعالم. يضرب فروم مثالًا:
رجل يشعر بالملل في عمله الروتيني، لكنه يتحول إلى شخص مليء بالطاقة عند مقابلة من يحب، ثم يعود للخمول في المنزل .
هذا المثال يوضح أن الدوافع الخارجية (كالحب أو الخطر) قد توقظنا مؤقتًا، لكن اليقظة الحقيقية تتطلب إدراكًا داخليًا مستمرًا. هنا، يقترح فروم ممارسة التأمل والتحليل النفسي الذاتي، عبر استعراض أحداث الطفولة والمخاوف الأولى لفهم جذور السلوك الحالي .
5. التحليل النفسي الذاتي واستكشاف اللاوعي
فروم، كتلميذ لفرويد، يدمج بين الفلسفة والتحليل النفسي. يشجع القارئ على:
تتبع سيرته الذاتية منذ الطفولة.
تحليل الأحداث المؤثرة كخيبات الأمل الأولى وفقدان الثقة بالنفس أو بالآخرين .
هذه العملية تساعد في كشف اللاوعي وفهم كيف تشكلت الشخصية عبر التجارب، مما يمهد الطريق لتغيير حقيقي. وهو يرى أن الحرية لا تكمن في الهروب من الماضي، بل في فهمه لصنع مستقبل واعٍ .
6. حالتي التملك والوجود
يفرق فروم بين نمطين من الوجود:
حالة التملك: تركيز الفرد على امتلاك الأشياء (المال، السلطة)، مما يؤدي إلى الأنانية والعزلة.
حالة الوجود: التركيز على الفعل والمشاركة مع الآخرين، مما يعزز التكامل والإبداع .
السعادة الحقيقية، وفقًا لفروم، لا تأتي من التملك، بل من العطاء والتواصل الإنساني. يستشهد بفكرة اسبينوزا: "الفضيلة والقوة شيء واحد"، مؤكدًا أن الحب فعل نشط، ليس مجرد شعور سلبي .
7. السعي نحو السعادة والمعنى
يرى فروم أن السعادة ليست هدفًا مجردًا، بل عملية مستمرة من النمو الذاتي والتفاعل مع العالم. يشير إلى أن:
المعنى الحقيقي للحياة يكمن في تحقيق الوحدة مع الآخرين مع الحفاظ على الاستقلالية.
الفشل في تحقيق هذه الوحدة يؤدي إلى العزلة أو التدمير الذاتي .
هنا، يتقاطع فكره مع مفاهيم الحب الناضج الذي يجمع بين الاتحاد والاحترام المتبادل، كما ناقش في كتابه "فن الحب" .
8. اقتراحات عملية للتحول
في الجزء الأخير من الكتاب، يقدم فروم خطوات عملية لتعزيز الوجود الأصيل، مثل:
التخلي عن نزعة التملك لصالح الإنتاجية والإبداع.
تعزيز القيم الإنسانية كالتواضع والشجاعة.
الانخراط في أنشطة تعزز التواصل بدلًا من العزلة .
هذه الخطوات تتطلب الجهد الواعي والإرادة لتجاوز الأنماط الاجتماعية السائدة.
الخاتمة: بين فروم وسارتر
على عكس جان بول سارتر الذي ركز على الحرية المطلقة والعبء الوجودي ، يقدم فروم رؤية أكثر تفاؤلًا، حيث الحرية مقترنة بالمسؤولية الاجتماعية والتنمية الذاتية. بينما يتحدث سارتر عن "الوجود يسبق الماهية" ، يؤكد فروم أن "الماهية" تُبنى عبر التفاعل الأصيل مع الذات والآخرين.
"فن الوجود" ليس كتابًا فلسفيًا مجردًا، بل دليل عملي لفهم الذات وخلق حياة ذات معنى في عالم مليء بالتحديات. عبر تركيزه على الوعي، النقد الاجتماعي، والتنمية الشخصية، يبقى إرث فروم مرجعًا أساسيًا لكل من يسعى إلى وجود حقيقي يتجاوز السطحية
____________________________________
المصادر
١. The Art of Being by Erich Fromm (Goodreads)
٢. The Art of Loving (Wikipedia)
٣. The Art of Loving (Goodreads)
٤. The Art of Loving (Barnes & Noble)
٥. Philosopher Erich Fromm on the Art of Loving (The Marginalian)
٦. The Art of Loving (تاسين)
0 تعليقات