"قياس غير مألوف: رحلة عبر الموسيقى، الأداء، وعلم الزمن" لناتالي هودجز
يُعد كتاب "Uncommon Measure: A Journey Through Music, Performance, and the Science of Time" لناتالي هودجز (ناتالي هودجز) عملاً استثنائياً يجمع بين السيرة الذاتية العميقة، والاستكشاف العلمي الدقيق، والتأمل الفلسفي اللامع حول طبيعة الزمن والإدراك والوجود الإنساني، وذلك من خلال عدسة الموسيقى والأداء الموسيقي. هودجز، عازفة الكمان السابقة التي عانت من قلق الأداء الشديد، تقودنا في رحلة شخصية وفكرية مثيرة، تنسج فيها خيوط خبرتها كموسيقية مع أحدث الاكتشافات في علم الأعصاب، والفيزياء، وعلم النفس، وفلسفة الزمن، لتطرح سؤالاً محورياً: كيف نفهم الزمن، ليس فقط كإطار خارجي، بل كتجربة داخلية تشكل جوهر هويتنا وفننا؟
الجزء الأول: نبض الخوف - قلق الأداء والزمن المشوه
البداية الشخصية: تفتتح هودجز الكتاب بوصف حي ومؤلم لنوبات الهلع و"التجمد" (freezing) التي كانت تعتريها على خشبة المسرح أثناء عزفها للكمان. هذا الخوف لم يكن مجرد توتر عادي، بل كان يشل قدرتها على التدفق مع الموسيقى، مشوهاً إدراكها للزمن نفسه. تصف كيف كانت الثواني تمتد إلى الأبد، وكيف كانت الذكريات المستقبلية لفشل محتمل تطغى على الحاضر.
الزمن كعدو: في حالة القلق، يتحول الزمن من نهر متدفق يحمل العازف إلى سجن. تصف هودجز كيف أن الخوف من الخطأ المستقبلي أو ذكرى خطأ سابق يقتحم الحاضر، مما يؤدي إلى تشنج العضلات وفقدان الاتصال باللحظة الآنية وبالجسد نفسه. يصبح الزمن متقطعاً، غير خطي، ومشحوناً سلباً.
السؤال الذي يدفع الرحلة: هذا الصراع مع الزمن على المسرح يدفع هودجز إلى البحث عن إجابات تتجاوز النصائح التقليدية لـ "الاسترخاء". تتساءل: ما هو الزمن حقاً؟ كيف يدركه الدماغ والجسد؟ ولماذا تنهار هذه الإدراكات تحت الضغط؟ هذا السؤال يصبح بوابتها لاستكشاف علمي وفلسفي شاسع.
الجزء الثاني: تشريح اللحظة - العلم وراء إدراك الزمن
تغوص هودجز بعمق في العلوم العصبية والإدراكية لفك شيفرة تجربة الزمن، مركزة على ما يهم الموسيقي والأداء:
الدماغ "المتوقع": تشرح كيف أن دماغنا ليس مسجلاً سلبيًا، بل هو "آلة تنبؤية" نشطة. فهو يبني باستمرار نماذج عن العالم (بما في ذلك التوقيت) بناءً على الخبرة السابقة، ويتوقع ما سيحدث بعد ذلك (مثل النوتة التالية في الجملة الموسيقية). في الأداء السلس، تتطابق هذه التوقعات مع الواقع، ويشعر الزمن بالاستمرارية. الخوف يعطل هذه الآلية.
التزامن والتوازي العصبي: تؤكد على أن إدراك الزمن ليس عملية واحدة في دماغ واحد. بل هو نتاج تفاعل معقد بين مناطق متعددة (القشرة السمعية، الحسية الجسدية، الحُصين للذاكرة، اللوزة للعاطفة، الفص الجبهي للانتباه والتخطيط). في الأداء الموسيقي، يجب أن تتزامن هذه المناطق بشكل مثالي لتنسيق الحركة، الاستماع، قراءة النوتة، والتعبير العاطفي. القلق يكسر هذا التزامن.
الذاكرة والزمن: تستكشف دور الذاكرة في تشكيل الزمن:
الذاكرة العرضية: ذكريات الأحداث المحددة (أداء سابق ناجح أو فاشل) يمكن أن تغزو الحاضر تحت الضغط.
الذاكرة الإجرائية: ("ذاكرة العضلات") المعتمدة على الممارسة العميقة. توضح كيف أن هذه الذاكرة تعمل بشكل أفضل عند "الاستسلام" لها، بدلاً من التفكير الواعي الذي يبطئ الزمن ويسبب التشنج.
التوقع والذاكرة المستقبلية: كيف أن تصوراتنا لما سوف يحدث (الخوف من الفشل) يمكن أن تشوه الحاضر بقوة أكبر من ذكريات الماضي الفعلية.
الجسد كساعة: تبرز هودجز دور الإحساس الجسدي (الحس العميق - proprioception) والإيقاعات البيولوجية الداخلية (مثل دقات القلب، التنفس) في إحساسنا بالزمن. القلق يسرع هذه الإيقاعات (خفقان القلب) ويجعلنا نركز على الأحاسيس الجسدية المزعجة، مما يشوه الإدراك الزمني ويقطع الاتصال بالآلة والموسيقى.
المرونة العصبية (Neuroplasticity) والموسيقى: تشرح كيف أن تعلم الموسيقى وتكرار الممارسة يغيران فعليًا بنية الدماغ ووظيفته، ويعززان التوصيلات بين المناطق المسؤولة عن السمع، الحركة، الانتباه، والعاطفة. هذا يخلق "شبكات" عصبية خاصة بالأداء تصبح أكثر كفاءة مع الوقت، ولكنها أيضًا يمكن أن تتأثر سلبًا بتجارب القلق.
الجزء الثالث: الزمن الموسيقي - بين الدقة واللا خطية
هنا تنتقل هودجز لاستكشاف طبيعة الزمن نفسه، مستعينة بالموسيقى كمجال مثالي للدراسة:
الزمن الموضوعي مقابل الذاتي: تفرق بين الزمن الفيزيائي القابل للقياس بالساعة (الميترونوم)، والزمن كما نختبره داخليًا أثناء الاستماع أو العزف. الموسيقى تعيش في الفضاء بينهما: فهي تعتمد على إطار زمني موضوعي (الإيقاع، الميزان)، ولكن تأثرها العاطفي والجمالي يأتي من كيفية تشويهها وتمطيطها وتكثيفها لهذا الإطار (الروبَتو، الديناميكيات، الصمت).
الزمن اللا خطي في الموسيقى: تجادل هودجز بأن تجربة الموسيقى تكشف زمناً غير خطي. لحن ما يمكن أن يستحضر ذكريات الماضي (موسيقى من طفولتنا)، أو يخلق توقعات للمستقبل (حل التوتر اللحني). التكرار والتغير في القطع الموسيقية يخلق إحساساً بالدوائر الزمنية. في الأداء الجيد، يعيش العازف في "الآن" الموسيقي، لكن هذا "الآن" مشبع بالماضي (التدريب، الذاكرة) والمستقبل (التوقع، القصد التعبيري).
الصمت كفاعل زمني: تخصص هودجز مساحة هامة لدور الصمت في الموسيقى. الصمت ليس غياباً للصوت، بل هو عنصر فعال يشكل التوقع، التوتر، القرار، ويعيد تشكيل إدراك الزمن الذي يسبقه ويليه. الصمت في مواجهة القلق يصبح ثقيلاً ومخيفاً، بينما في سياق موسيقي يمكن أن يكون مليئاً بالمعنى.
الارتجال كتحرر زمني: ترى في الارتجال نموذجاً للتعامل المرن مع الزمن. المُرتجل لا يتبع خريطة زمنية صارمة مسبقة، بل يستجيب للحظة، يبني على ما يحدث فورياً، ويتخذ قرارات في الزمن الحقيقي. هذا يتطلب ثقة عميقة وغياب الخوف الذي يشل التوقع.
الجزء الرابع: إعادة تشكيل العلاقة مع الزمن - ما وراء الخوف
بعد هذا الاستكشاف الغني، تعود هودجز لتطبيقاته على تجربتها الشخصية وعلى الأداء والفن عموماً:
فهم التشويه: مجرد فهم الآليات العصبية والذهنية وراء تشويه الزمن تحت الضغط (كيف يسرع الخوف التوقعات السلبية، وكيف يكسر التزامن الدماغي) يمنح فهماً يقلل من الغموض والرعب. الخوف ليس ضعفاً شخصياً، بل هو استجابة عصبية معقدة يمكن دراستها.
إعادة تعريف "الآن": تستنتج أن "اللحظة الحاضرة" (the present moment) التي يسعى إليها الموسيقيون وغيرهم ليست نقطة ثابتة خالية من الماضي والمستقبل. بدلاً من ذلك، هي حالة من الاندماج المتوازن، حيث يتم دمج التوقعات المستندة إلى الذاكرة (الماضي) والقصد التعبيري (المستقبل) بشكل سلس مع الإحساس بالجسد والصوت في اللحظة الفعلية. هي حالة من "الانسياب" (Flow) حيث يكون الزمن الذاتي متناغماً مع النشاط.
قوة القبول والضعف: تكتشف هودجز أن محاولة السيطرة الكاملة على الزمن والأداء (والخوف من فقدان هذه السيطرة) هي مصدر القلق. بدلاً من ذلك، تجد قوة في قبول الطبيعة غير الخطية والمتغيرة للزمن، وفي قبول الضعف الإنساني والخطأ كجزء من التجربة. هذا لا يعني عدم التحضير، بل يعني تغيير موقفها من الأداء من معركة للسيطرة إلى مشاركة في تجربة إنسانية مشتركة.
الزمن كنسيج للهوية: تتوسع رؤية هودجز لتربط الزمن بالهوية. نحن كائنات زمنية: ذاكرتنا تشكل من نكون، وتوقعاتنا توجه أفعالنا، وحاضرنا هو نقطة التقاء الاثنين. الموسيقى، بتركيبها المعقد للذاكرة (تكرار الممارسة، تذكر النوتة)، التوقع (الجمل اللحنية، التناغم)، والحضور (الأداء الحي)، تصبح استعارة قوية لنسيج الهوية الإنسانية نفسه. الخوف من الأداء يصبح، في عمقه، خوفاً على الهوية والكيان.
ما بعد الأداء: الفن والوجود: في نهايتها، تتجاوز هودجز قلق الأداء الفردي لتتأمل في دور الفن عمومًا. الفن (والموسيقى تحديداً) يقدم لنا طريقة لاختبار الزمن بشكل مختلف، لتمديده، تكثيفه، طيه، أو إيقافه مؤقتاً. إنه يتيح لنا تجربة الزمن ليس كسلسلة من اللحظات المنفصلة، بل كنسيج متصل ومشبع بالمعنى. في هذا المعنى، يصبح الأداء، حتى مع كل مخاطره، محاولة لإعادة تأكيد إنسانيتنا في مواجهة الزمن الذي لا يرحم.
الخلاصة والرؤية: نحو قياس أكثر إنسانية
يختتم الكتاب برؤية متصالحة ولكنها عميقة:
القياس "غير المألوف": عنوان الكتاب يلمح إلى أن الإيقاع الموسيقي (الميزر) هو وحدة قياس، ولكن الرحلة تظهر أن "القياس" الحقيقي لتجربة الزمن الإنسانية (وخاصة في الفن) لا يمكن اختزاله إلى وحدات موضوعية. إنه قياس غير مألوف، شخصي، معقد، ومشبع بالعاطفة والذاكرة والجسد.
الموسيقى كجسر: الموسيقى هي الجسر الذي عبرته هودجز لفهم زمنها الداخلي المضطرب. إنها المجال الذي يتجلى فيه الصراع بين الدقة الموضوعية والتجربة الذاتية، بين التوقع والحضور، بين الخوف والتحرر.
المصالحة: على الرغم من أن هودجز قد لا تعود للعزف المحترف بنفس الشغف السابق، فإن رحلتها تؤدي إلى مصالحة مع زمنها ومع نفسها. تجد قيمة جديدة في الكتابة (هذا الكتاب نفسه) كوسيلة لنسج تجاربها وأفكارها عبر الزمن، وخلق شيء دائم من تجارب عابرة ومضطربة.
دعوة للتأمل: الكتاب ليس مجرد علاج لقلق الأداء أو شرحاً علمياً. إنه دعوة تأملية للقارئ للتفكير في علاقته الخاصة بالزمن: كيف يختبره في لحظات الفرح، الحزن، التركيز، الملل، الخوف، أو الإبداع؟ كيف تشكل ذاكرته وتوقعاته حاضره؟ وكيف يمكن لفن ما (موسيقى، أدب، رسم...) أن يمنحه وسيلة لاختبار الزمن بشكل أعمق وأكثر معنى؟
في جوهره، "قياس غير مألوف" هو تأمل رائع ومؤثر في أكثر الأسئلة الإنسانية جوهرية: كيف نعيش في الزمن، وكيف يمكن للفن والعلم معاً أن يضيئا هذا الغموض، وكيف يمكن أن نجد السلام – وربما الجمال – في قلب عدم اليقين الزمني الذي يحدد وجودنا. الكتاب هو شهادة على قوة البحث الفكري في شفاء الجروح النفسية، وإعادة تشكيل فهمنا لأنفسنا والعالم من حولنا.
0 تعليقات