السحر والدين في عصور ما قبل التاريخ

 


السحر والدين في عصور ما قبل التاريخ: رحلة في أعماق الوعي الإنساني البدائي

 

مقدمة: استكشاف الجذور الغائرة

يمثل كتاب "السحر والدين في عصور ما قبل التاريخ" للمفكر العراقي الكبير خزعل الماجدي، عملاً موسوعياً رائداً في حقل تاريخ الأديان والأنثروبولوجيا الدينية. 

لا يكتفي الكتاب بسرد الوقائع الأثرية أو وصف الممارسات الطقوسية، بل يغوص عميقاً في محاولة لفهم البنى الذهنية والروحية للإنسان البدائي، وكيف تشكلت المفاهيم الأولى للسحر والدين في فجر الوعي الإنساني.

 يعتمد الماجدي على منهجية علمية دقيقة، مستنداً إلى الأدلة الأثرية الصلبة (كهوف، مقابر، تماثيل، رسوم، أدوات طقسية) من مختلف أنحاء العالم، وخاصة أوروبا والشرق الأوسط، مقرونة بتحليل أنثروبولوجي مقارن للمعتقدات الشعبية والسحرية لدى المجتمعات التقليدية المعاصرة. يهدف الكتاب إلى تتبع المسار التطوري للفكر الديني من أقدم مظاهره في العصر الحجري القديم (الباليوليت) وصولاً إلى بدايات العصور التاريخية وظهور الديانات الكبرى المنظمة. .

أولاً: الأرضية المنهجية والفكرية

يؤسس الماجدي لدراسته بمناقشة منهجية عميقة، محذراً من قراءة الماضي بعيون الحاضر أو فرض المفاهيم الدينية الحديثة على الإنسان البدائي. ويؤكد على:

  1. التمييز بين السحر والدين: يرى الماجدي، متابعاً أفكار علماء مثل جيمس فريزر وإميل دوركهايم، أن السحر والدين ظاهرتان متمايزتان رغم تداخلهما الوثيق. فالسحر يقوم على فكرة التحكم بالقوى الخفية (المانا، القوة الحيوية) عبر طقوس وألفاظ محددة لإجبارها على خدمة أغراض الإنسان المباشرة (الخصوبة، الصيد، الشفاء، الإيذاء). بينما يقوم الدين على علاقة تبجيل وتوسل وخضوع للقوى المقدسة (الآلهة، الأرواح)، معترفاً باستقلاليتها وسيادتها، ويهدف إلى تنظيم العلاقة بين البشر والعالم الماورائي والأخلاقي. السحر "تقني" في جوهره، بينما الدين "علائقي" وأخلاقي.

  2. المراحل التطورية: يقترح الماجدي مساراً تطورياً (مع الإقرار بأنه ليس خطياً بالضرورة في كل مكان) يبدأ من مرحلة أولية من "الحيوية" (Animism) حيث تُنسب الحياة والروح لكل الظواهر الطبيعية، تليها مرحلة "التقديس الطوطمي" (Totemism) حيث يرتبط الجماعة البشرية برمز حيواني أو نباتي مقدس، ثم مرحلة "المانا" (Mana) أي الإيمان بقوة خفية غير شخصية تسري في الأشخاص والأشياء، وصولاً إلى "تعدد الآلهة" (Polytheism) ثم "الآلهة الثنائية" (الثنوية) وأخيراً "التوحيد" (Monotheism). يشكل السحر خلفية مشتركة تسبق وتواكب هذه المراحل.

  3. الأهمية المركزية للطقوس: يرفض الماجدي الفصل بين "العقيدة" و"الممارسة". فالطقوس (الدفن، الرقص، التضحية، السحر) ليست تعبيراً عن معتقدات قائمة فحسب، بل هي الأداة الأساسية التي تشكل وتُبلور تلك المعتقدات وتنقلها عبر الأجيال. قراءة الطقوس هي مفتاح فهم العقلية الدينية البدائية.

ثانياً: بذور الوعي الديني في العصر الحجري القديم (الباليوليت)

يرى الماجدي أن جذور السحر والدين تعود إلى العصر الحجري القديم الأعلى (حوالي 40,000 - 10,000 ق.م)، حيث تظهر الأدلة الأولى:

  1. طقوس الدفن: اكتشافات مقابر مزودة بهدايا (طعام، أدوات، حلي، صبغة حمراء "أوخر") تشير إلى إيمان بحياة ما بعد الموت. دفن الجثث بطريقة معينة (مثنية، موجهة نحو الشرق) يوحي بمفاهيم عن العالم الآخر وربما إعادة الميلاد. دفن الحيوانات (كالكلب) مع البشر قد يشير إلى مفاهيم مبكرة عن الروح المصاحبة.

  2. فن الكهوف المذهل: كهوف مثل لاسكو في فرنسا وألتاميرا في إسبانيا تقدم دليلاً صارخاً على نشاط فني طقوسي معقد. رسوم الحيوانات الضخمة (البيسون، الخيول، الغزلان) في أعماق الكهوف غير الصالحة للسكن، غالباً ما تكون فوق بعضها أو في أماكن يصعب الوصول إليها، تشير بقوة إلى ارتباطها بطقوس سحرية تهدف إما إلى:

    • سحر الصيد: السيطرة على روح الحيوان أو ضمان نجاح الصيد أو تكاثر القطيع. (نظرية "السحر التمثيلي").

    • الشامانية: الكهف كبوابة للعالم السفلي، حيث يدخل الشامان (الساحر/الكاهن) في حالة وجد أو غيبوبة عبر الرقص أو الضرب على الطبل أو استخدام النباتات المخدرة للاتصال بعالم الأرواح والحيوانات واستجداء عونها. وجود رسوم لأنصاف بشر وأنصاف حيوانات ("الساحر" في كهوف تروي فريير) يعزز هذه الفكرة.

  3. التماثيل الأنثوية ("فينوس"): تماثيل صغيرة من العاج أو الحجر لنساء مبالغ في أنوثتهن (أثداء وبطون وأرداف ضخمة، تفاصيل وجه وأطراف ضئيلة). أشهرها فيلندورف. يرفض الماجدي التفسير البسيط بأنها "رموز جمالية". يرى أنها تمثل:

    • سحر الخصوبة: أدوات طقسية لضمان خصوبة النساء والجماعة البشرية وتكاثر الحيوانات التي تعتمد عليها.

    • تجسيد لقوة أنثوية كونية: أم عظيمة مصدر كل حياة، مقدمة مبكرة لاحقة لآلهة الخصب الكبرى في العصور اللاحقة. لكنه يحذر من تعميم فكرة "الإلهة الأم" كدين عالمي في الباليوليت.

ثالثاً: الثورة الزراعية والتحولات الكبرى (العصر الحجري الحديث - النيوليت)

يشكل اختراع الزراعة واستئناس الحيوانات (حوالي 10,000 ق.م فما بعد) نقطة تحول جذرية في التاريخ البشري وفي تطور السحر والدين:

  1. من الصيد إلى الزراعة: التحول من الاعتماد على الصيد الجامع إلى إنتاج الطعام يغير علاقة الإنسان بالطبيعة. لم يعد الحيوان البرّي هو المصدر الأساسي للحياة، بل النبات المزروع والحيوان المستأنس. هذا يولد حاجة لطقوس جديدة لضمان خصوبة الأرض والمحاصيل والقطعان.

  2. ظهور المستوطنات الدائمة والقرى: الاستقرار الجغرافي يسمح ببناء أماكن عبادة دائمة (مقدسات، معابد بدائية) وتطوير طقوس جماعية أكثر تنظيماً وتعقيداً، مرتبطة بدورة الزراعة (البذر، الحصيد) والفصول.

  3. تطور مفاهيم الآلهة: تتطور فكرة القوى الخارقة من أرواح الحيوانات والطبيعة إلى آلهة أكثر تجريداً وشخصنة، مرتبطة بقوى كونية كبرى:

    • إلهة الخصب العظمى: تظهر بقوة في النيوليت كسيدة الحياة والموت والزراعة والحيوانات. تماثيلها أكثر تفصيلاً، وربطت بالثور (رمز القوة والخصوبة الذكرية) في ثنائية مقدسة. مواقع مثل تشاتال هويوك في تركيا تقدم أدلة مذهلة على مزاراتها وطقوسها.

    • إله السماء/العاصفة: مع تطور الزراعة، يصبح المطر عنصراً حاسماً. يبرز إله ذكوري مرتبط بالسماء والمطر والرعد والعاصفة، غالباً ما يمثل بالثور أو الصقر.

    • عبادة الأسلاف: الاستقرار وارتباط الأجيال بالأرض يعزز تقديس أرواح الأسلاف، كوسطاء بين الأحياء والعالم الماورائي وحماة للأرض والجماعة. تظهر المقابر تحت أرضيات البيوت أو في مقابر جماعية خاصة.

  4. تطور السحر: تظهر طقوس سحرية متطورة لضمان المطر (مثل رقصات المطر)، وخصوبة الأرض (طقوس الزواج المقدس بين الإله والإلهة)، وحماية المحاصيل والمواشي من الأرواح الشريرة والأمراض. تزداد أهمية الساحر/الكاهن كوسيط متخصص.

رابعاً: عصر المعادن وصعود المدن (الكالكوليتي والعصر البرونزي)

مع اكتشاف المعادن (النحاس ثم البرونز) وبدايات التحضر وتكوين الدول المبكرة (في بلاد الرافدين، مصر، وادي السند)، يشهد السحر والدين تحولات عميقة:

  1. تعقيد البانثيون (مجمع الآلهة): تتحول الآلهة إلى شخصيات أكثر تحديداً ووضوحاً، ذات صفات ووظائف محددة (إله الشمس، إله الحرب، إلهة الحب، إله الحكمة...). تنشأ علاقات قرابة (أزواج، أبناء) بينها، وتتكون أساطير (ميثولوجيا) لتفسير أصل الكون والإنسان ودور الآلهة.

  2. ظهور الكهنة المحترفين والمعابد الكبرى: مع تعقد المجتمع والدين، ينفصل الكهنوت كمهنة متخصصة ذات تسلسل هرمي، مسؤولة عن إدارة الطقوس المعقدة في معابد ضخمة أصبحت مراكز اقتصادية وسياسية إلى جانب دورها الديني.

  3. الطقوس الرسمية والتضحية: تكتسب الطقوس الجماعية الرسمية (المواكب، الأعياد، التراتيل) أهمية كبرى. تصل التضحية البشرية والحيوانية إلى ذروتها كوسيلة لإرضاء الآلهة القوية أو استرضائها في الأزمات أو ضمان انتصار الملك (المُمثل الأرضي للإله).

  4. السحر الرسمي والشعبي: يستخدم السحر من قبل الدولة (السحر السياسي لضمان انتصار الجيش، سحر الخصب الرسمي) ومن قبل الكهنة في المعابد لأغراض علاجية ووقائية. في الوقت نفسه، يستمر السحر الشعبي (العين، الحسد، الحب، الضر) بشكل موازٍ، غالباً ما يكون تحت رقابة أو حظر من السلطة الدينية الرسمية.

  5. بدايات الكتابة والأسرار الدينية: اختراع الكتابة (السومرية، المصرية الهيروغليفية) يسمح بتسجيل الأساطير والتراتيل والتعاويذ السحرية وحفظها بدقة. لكنه يفتح الباب أيضاً لـ "أسرار" دينية يقتصر معرفتها على الكهنة والنخبة، مما يزيد من هيبتهم وسلطتهم.

خامساً: من تعدد الآلهة نحو التوحيد (نهايات ما قبل التاريخ)

يُلمح الماجدي إلى أن عصور ما قبل التاريخ شهدت بذور الأفكار التي قادت لاحقاً إلى التوحيد:

  1. التسامي الإلهي: ظهور مفاهيم عن آلهة سامية جداً (مثل الإله "آن" السومري إله السماء البعيد) أو عن إله خالق أول (مثل "بتاح" في منف أو "آتوم" في هليوبوليس بمصر).

  2. الثنوية: ظهور أديان تُقسم العالم بين إله الخير (النور) وإله الشر (الظلمة) في صراع أبدي، كما في الزرادشتية (التي جذورها في عصور ما قبل التاريخ الإيراني).

  3. الديانات السرية (الأسرار): ظهور طقوس دخول (Initiation) ووعود بالخلاص الفردي وحياة أخرى أفضل للمُنتسبين إليها (مثل أسرار إليوسيس في اليونان)، مما مهد الطريق لتركيز أكثر على الفرد وخلاصه في الأديان اللاحقة.

 تراث لا يمحى

يختتم خزعل الماجدي كتابه بالتأكيد على أن السحر والدين في عصور ما قبل التاريخ ليسا مجرد "بدائية" تم تجاوزها، بل هما الأساس الذي قامت عليه كل الأديان التاريخية اللاحقة. 

لقد شكلا الاستجابة الإنسانية الأولى والأكثر جوهرية لأسئلة الوجود الكبرى: الموت، الحياة، الخير، الشر، قوى الطبيعة الغامضة. لقد وضعا الأسس للمفاهيم عن الروح، العالم الآخر، الأخلاق الجماعية، والعلاقة مع المقدس.

تستمر أنماط التفكير السحري (السببية الخفية، التماثل، الاتصال) في الظهور حتى في مجتمعاتنا "العلمانية" الحديثة في أشكال مختلفة (الطالع، التعاويذ، بعض الممارسات "الروحانية"). كما أن الكثير من الرموز والطقوس والأساطير التي ولدت في تلك العصور السحيقة لا تزال حية في تراثنا الديني والثقافي الشعبي حتى اليوم.

"السحر والدين في عصور ما قبل التاريخ" ليس مجرد سجل أثري، بل هو رحلة استكشافية مذهلة لأعماق النفس البشرية في بحثها الأبدي عن المعنى والحماية والاتصال بما يتجاوز المادة. يقدم لنا خزعل الماجدي دليلاً علمياً رصيناً وشاملاً لفهم كيف بدأ الإنسان رحلته الروحية الطويلة، وكيف لا تزال أصداء تلك البدايات ترن في وجداننا المعاصر. الكتاب دعوة لفهم تراثنا الإنساني المشترك في أعمق طبقاته وأكثرها بدائية وقوة

________________________

المصادر

١. Goodreads - صفحة الكتاب الرسمية

2. نيل وفرات - تفاصيل الشراء

3. سجل مكتبة جامعة محمد بن زايد٤. 

4.ISBN Search - الرقم الدولي المعياري

5. موسوعة المعرفة - سيرة المؤلف

إرسال تعليق

0 تعليقات