عقل غير مرتاح لكاي ريدفيلد جيميسون



 عقل غير مرتاح

 مذكرات عن المزاج والجنون

 لكاي ريدفيلد جيميسون

 أهمية العمل وتميزه

" مذكرات عن المزاج والجنون" (1995) هو السيرة الذاتية الرائدة للأستاذة كاي ريدفيلد جيميسون، أستاذة الطب النفسي بجامعة جونز هوبكنز، التي تجمع بين خبرتها كواحدة من أبرز الباحثين في الاضطراب ثنائي القطب (الاكتئاب الهوسي) وتجربتها الشخصية كلاجئة من أهوال هذا المرض.

 يمثل  نقلة نوعية في الأدب الطبي والنفسي حيث يكسر حاجز الصمت حول الأمراض العقلية من خلال سرد صادق ومفعم بالحياة لمعاناة جيميسون مع الهوس والاكتئاب.

 نُشر أولاً باللغة الإنجليزية عام 1995 ثم أعيد نشره في طبعة غلاف ورقي عام 1997.

التمازج الفريد بين الرؤية العلمية والمعاناة الذاتية يجعل هذا العمل مرجعًا إنسانيًا وعلميًا فريدًا. تصف جيميسون المرض بأنه:

"ألم خاص، بهجة، وحدة، ورعب متأصل في هذا النوع من الجنون... الجنون ينحت واقعيته الخاصة".

 العالمة والمريضة

كاي ريدفيلد جيميسون (مواليد 1946) هي أستاذة الطب النفسي في جامعة جونز هوبكنز وأستاذة فخرية للأدب الإنجليزي في جامعة سانت أندروز. شاركت في تأليف النص الطبي القياسي "الاضطرابات المزاجية: مرض الاكتئاب الهوسي المتكرر" مع فريدريك جودوين. رغم مكانتها الأكاديمية المرموقة، عانت جيميسون من الاضطراب ثنائي القطب منذ مراهقتها، وهو ما أثر على مسيرتها الأكاديمية والسريرية .

البنية التحليلية 

يُقسم الكتاب إلى أربعة أجزاء رئيسية، كل منها يركز على مرحلة محورية في رحلة المؤلفة مع المرض:

الطفولة والبدايات

  • الخلفية العائلية: نشأت جيميسون في عائلة عسكرية متنقلة، حيث كان والدها مبدعًا وكاريزماتيًا لكنه عانى من نوبات اكتئابية متزايدة خاصة بعد انتقال العائلة إلى كاليفورنيا. والدتها كانت مصدرًا للدعم والحنان، وهو ما تؤكد جيميسون أنه كان حاسمًا في بقائها.

  • البوادر الأولى: ظهرت أول نوبة هوس خفيف (هيبومانيا) خلال سنتها الأخيرة في المدرسة الثانوية، تلتها نوبة اكتئاب، لكنها استطاعت إخفاء الأعراض والتظاهر بالطبيعية ("المرور كعادية عصبية").

  • المسار الأكاديمي: اتجهت إلى علم النفس السريري في جامعة كاليفورنيا (UCLA)، حيث أكملت الدكتوراه وأصبحت أستاذة في قسم الطب النفسي، متجاهلة في البداية خطورة أعراضها .

 جنون ليس بالرائع 

  • الهوس المدمر: تصف جيميسون كيف كانت نوبات الهوس تمنحها طاقة هائلة وإنتاجية في العمل، لكنها تقودها أيضًا إلى:

    • الإنفاق الطائش: إسراف مالي تطلب تدخل شقيقها لإنقاذها من الإفلاس.

    • العنف: نوبات غضب عرّضت زواجها للانهيار.

    • عدم التركيز: عجز عن قراءة فقرة واحدة أو الاستماع لأغنية كاملة .

  • بداية العلاج: بعد إلحاح من زملائها، بدأت العلاج بالليثيوم وتلقي العلاج النفسي، لكنها توقفت عن الدواء عدة مرات بسبب إنكارها للمرض أو رغبتها في الهروب من آثاره الجانبية.

  • محاولة الانتحار: خلال نوبة اكتئاب حادة، تناولت جرعة زائدة من الليثيوم، وأنقذها تدخل شقيقها الذي لاحظ تلعثمها في الهاتف. بعد النقاهة، أسست عيادة الاضطرابات الوجدانية في UCLA وحصلت على درجة الأستاذية .

هذا الدواء، الحب 

  • الرومانسية والفقد: بعد انهيار زواجها الأول، وقعت في حب "ديفيد"، طبيب نفسي بريطاني في فيلق الخدمات الطبية للجيش. بعد قضاء وقت معه في لندن، أدركت أهمية الحب في حياتها. توفي ديفيد بنوبة قلبية أثناء خدمته في هونغ كونغ، مما سبب لها حزنًا طويلاً، وصفته بأنه "كسرها عند مكتب الخطوط الجوية البريطانية" عندما سألوها عن سبب زيارتها .

  • العلاج المتوازن: بعد تعديل جرعة الليثيوم، قلّت الآثار الجانبية مع الحفاظ على فعاليته.

  • الزواج الثاني: التقت ريتشارد وايت، الذي أصبح زوجها الثاني، وانتقلت معه إلى واشنطن، تاركة منصبها في UCLA .

 

 

 عقل غير مرتاح 

  • معارضة التسمية: ترفض جيميسون تغيير اسم المرض من "الاكتئاب الهوسي" إلى "الاضطراب ثنائي القطب"، معتبرة أن الاسم الجديد يفصل بين الاكتئاب والهوس بشكل مصطنع ويخفي طبيعة المرض .

  • الجانب الوراثي: تناقش الأدلة الجينية على المرض من خلال حديثها مع جيم واتسون (مكتشف بنية الحمض النووي).

  • قرار عدم الإنجاب: بعد نصيحة طبية بعدم الإنجاب بسبب خطر انتقال المرض وراثيًا، تعتبر هذا القرار "الندم الأكثر إيلامًا في حياتها"، رغم استمتاعها بدور الخالة مع أبناء إخوتها .

  • الانفتاح المهني: في جامعة جونز هوبكنز، كشفت عن مرضها لزملائها لحماية مرضاها، ووجدت قبولًا ودعمًا غير متوقع .

 رحلة جيميسون مع الاضطراب ثنائي القطب:

المرحلة العمريةالأحداث الطبيةالإنجازات المهنيةالعلاقات المحورية
المراهقةأول نوبة هيبومانيا واكتئابشغف بعلم النفسعلاقة متوترة مع الأب المكتئب
الجامعةتفاقم الأعراض دون تشخيصدكتوراه من UCLAزواج أول ينتهي بالانفصال
أستاذية في UCLAتشخيص المرض، محاولة انتحارتأسيس عيادة الاضطرابات الوجدانيةدعم الأصدقاء والزملاء
منتصف العمرتوازن بالليثيومأستاذية في جونز هوبكنززواج ثانٍ، علاقة مع أبناء الإخوة

التحليل النفسي للمرض

  • الجاذبية القاسية للهوس: تصف جيميسون الهوس ليس فقط كمرض بل كحالة إبداعية جذابة:

    "الخجل يختفي، الكلمات والإيماءات الصحيحة تصبح فجأة حاضرة، القوة لجذب الآخرين تصبح يقينًا... المشاعر الجسدية تغمر كل شيء" .
    لكن هذا "السحر" يتحول إلى فوضى: "الأفكار السرية تصبح سريعة جدًا، والارتباك يحل محل الوضوح".

  • الوصمة الاجتماعية: تكشف كيف أن وصمة المرض العقلي تمنع المرضى من الاعتراف بحاجتهم للعلاج، خاصة بين الأكاديميين والمهنيين. موقفها كطبيبة نفسية يضاعف هذا التحدي: "كيف يمكنني علاج المرضى وأنا مريضة مثلكم؟" .

  • دور الدعم العاطفي: تؤكد أن الحب والدعم العائلي (خاصة من شقيقها ووالدتها) كانا "الدواء" الذي ساوى أهمية الليثيوم. حزنها على وفاة ديفيد يظهر كيف يمكن للصدمة أن تهز استقرار المريض .

التقييم النقدي 

  • الردود النقدية:

    • وصفته ميلودي موزي (المحامية الإيرانية-الأمريكية المصابة بالاضطراب ثنائي القطب) بأنه "أكثر كتاب صادق وعبقري قرأته عن الاضطراب ثنائي القطب" .

    • أشادت صحيفة الغارديان بـ"صراحته التي لا تضاهى حول الحياة مع الاضطراب ثنائي القطب" (2011) .

  • الانتقادات: واجه الكتاب انتقادات لتركيزه على تجربة النخبة (جيميسون بيضاء، متعلمة، ذات دخل مرتفع)، لكن مؤيديه يرون أن نجاحها يثبت إمكانية التعايش مع المرض .

 الثقافي والعلمي

  • كسر تابوهات المرض العقلي: ساهم الكتاب في تقليل الوصمة الاجتماعية من خلال عرض إنساني عميق لمعاناة المريض، مع إظهار أن "العقل المضطرب ليس بالضرورة عقلًا ناقصًا" .

  • مرجعية للمرضى والأطباء: أصبح الكتاب مرجعًا في كليات الطب وعيادات الصحة النفسية، حيث يقدم رؤية ثنائية الجانب (المريض والطبيب) .

  • الحديث عن العلاج الدوائي: ناقشت بتفصيل نادر معضلة الموازنة بين فعالية الليثيوم وآثاره الجانبية، وصراع المريض مع الالتزام بالعلاج .

 رسالة الأمل 

تختتم جيميسون مذكراتها بتصوير الحياة مع الاضطراب ثنائي القطب كرحلة مستمرة من "الألم والبهجة والوحدة والرعب"، لكنها أيضًا تؤكد إمكانية إدارة المرض عبر:

  1. العلاج المتوازن (دواء وعلاج نفسي).

  2. شبكة دعم عاطفي (أصدقاء، عائلة، زملاء).

  3. التقبل الذاتي للمرض كجزء من الهوية دون أن يكون تعريفًا كاملاً للذات.

"نحن جميعًا، كما قال بايرون، منظمون بشكل مختلف. كل منا يتحرك ضمن قيود مزاجه ويعيش جزئيًا فقط إمكانياته" .

يظل هذا العمل شهادة خالدة على قوة الضعف البشري، وقدرة العقل المضطرب على الإبداع، وأهمية "الحنان" كدواء لا يقل عن العقاقير في معركة الإنسان ضد جنونه الخاص.

 الكتاب ليس مجرد سيرة ذاتية، بل هو منارة لأي عقل يبحث عن السلام في وسط العاصفة

إرسال تعليق

0 تعليقات