فكرا خلقا

 


 "فكرا خلقا" لميرشيا إلياد:

 رحلة في الزمن المقدس وصراع الهوية الدينية

1. الزمن المقدس والزمن الدنيوي: ثنائية أساسية

يركز ميرشيا إلياد في كتابه على الثنائية بين "الزمن المقدس" و"الزمن الدنيوي"، مُعرِّفًا الأول بأنه الزمن الذي يتجاوز التاريخ البشري، حيث تتدخل الإرادة الإلهية بشكل مباشر، بينما الثاني هو الزمن اليومي الذي يخضع للتغييرات التاريخية. يرى إلياد أن المجتمعات الدينية تسعى دائمًا إلى إعادة تمثيل الزمن المقدس عبر الطقوس والأساطير، مما يُعيد الربط بين الإنسان والمطلق.

في السياق الإسلامي، يُشير إلياد إلى أن وفاة النبي محمد مثَّلت نهاية "الزمن المقدس" الذي كان يتمثل في اتصال مباشر مع الله عبر الوحي، مما أجبر المسلمين على تنظيم حياتهم الدينية وفق نصوص مقدسة (القرآن) وأحاديث نبوية كمرجعية بديلة. هذا التحول يعكس الصراع بين الحفاظ على المقدس والتكيف مع متطلبات الزمن الدنيوي.


2. الأسطورة كجسر بين المقدس والمدنس

تُعد الأسطورة عند إلياد أداةً لاستحضار الزمن المقدس، فهي ليست مجرد حكاية تقليدية، بل وسيلة لاستعادة اللحظات التأسيسية للكون. يُفرِّق إلياد بين الأسطورة والخرافة أو الحكاية الشعبية، مؤكدًا أن الأولى تحمل بُعدًا وجوديًا يربط الإنسان بأصل الخلق.

في الإسلام، يمكن رؤية هذا في الأحاديث القدسية التي تنقل كلام الله مباشرةً دون أن تكون جزءًا من القرآن. هذه الأحاديث، رغم ضعف سند بعضها، تحاول الحفاظ على صلة المؤمن بالخطاب الإلهي المباشر، مما يعكس محاولةً لاستمرار "الزمن المقدس" حتى بعد انقطاع الوحي . هنا، تتشابه وظيفة الأسطورة مع وظيفة الحديث القدسي في خلق حوار مستمر مع المقدس.


3. الطقوس: إعادة تمثيل الخلق

الطقوس الدينية، بحسب إلياد، ليست مجرد أفعال رمزية، بل إعادة تمثيل للحدث المقدس التأسيسي. مثلاً، الصلاة في الإسلام تُعتاد تكرارًا لحركات النبي محمد، مما يُعيد الربط بزمنه المقدس. يُشير إلياد إلى أن الطقوس تُذكِّر الإنسان بأصوله وتعيد تنظيم حياته وفق نظام مقدس.

في هذا السياق، يذكر أن تطور علوم الحديث في الإسلام (كالصحيحين) كان محاولةً لتنظيم "الزمن الدنيوي" وفق مرجعيةٍ تُحاكي الزمن المقدس للنبي، مما أدى إلى ظهور فقهاء ومتصوفة حاولوا تفسير النصوص بطرق مختلفة، بعضها حرفي وبعضها تأويلي.


4. المكان المقدس: مركز العالم

يناقش إلياد مفهوم "المكان المقدس" كمركز للعالم، حيث يُعاد تمثيل الخلق عبر العمارة الدينية. المساجد، على سبيل المثال، تُبنى غالبًا كتمثيل للكعبة (التي تُعتبر مركز العالم في الإسلام)، مما يُعيد خلق الاتصال بالزمن المقدس.

هذا المفهوم يتجلى أيضًا في فكرة "الأمة المبكرة" التي ذكرها ويليام غراهام في دراسته عن الأحاديث القدسية، حيث كانت الكلمة الإلهية محفوظة في القلوب قبل تدوينها، مما جعل كل مكانٍ يُذكر فيه الله مركزًا مقدسًا مؤقتًا .


5. الأزمات الدينية في العصر الحديث

يُحلل إلياد أزمة المقدس في العصر الحديث، حيث يسيطر الزمن الدنيوي على الوعي البشري، مما يؤدي إلى انفصال الإنسان عن الجذور الروحية. في الإسلام، يمكن ملاحظة هذه الأزمة في ظهور التيارات التي ترفض الأحاديث النبوية (كالقرآنيين)، معتبرة إياها منتجًا بشريًا مُشوبًا بثقافة العصر العباسي.

هنا، يُشير إلياد إلى أن محاولات "إعادة الأسطرة" (مثل الحركات الصوفية التي تعتمد على الأحاديث القدسية) تُعتبر ردود فعل على أزمة التقديس، حيث يسعى المؤمنون إلى استعادة الاتصال بالزمن المقدس عبر نصوصٍ تتعالى على التاريخ.


6. النقد الغربي والمقاربات الأنثروبولوجية

يتناول إلياد النقد الغربي للظواهر الدينية، مشيرًا إلى أن المفاهيم مثل "البدائي" (التي ناقشتها الأنثروبولوجيا الاستعمارية) تُشوّه فهم المقدس عبر تصنيف المجتمعات غير الغربية كمراحل "سابقة" للتطور. يُحذر من أن هذه النظرة تُهمش البُعد الوجودي للأسطورة والطقس.

في المقابل، يرى أن الدراسات الحديثة (كدراسات غراهام عن الأحاديث القدسية) تُظهر أن النصوص الدينية، حتى لو كانت متأخرة زمنيًا، تحمل نواةً أصيلة تعكس حاجات المؤمنين الروحية، مما يُعيد الاعتبار للبُعد المقدس في التاريخ الديني.


7. إعادة اكتشاف المقدس

يختتم إلياد بأن استعادة المقدس في العصر الحديث تتطلب تفكيك الثنائيات الزائفة (مقدس/مدنس، بدائي/متحضر)، وفهم الدين كظاهرة معقدة تجمع بين التاريخي والماورائي. في الإسلام، يُترجم هذا عبر الحوار المستمر بين النص القرآني الثابت والاجتهاد البشري المتغير، حيث تُعتبر الأحاديث القدسية جسرًا بينهما.


كتاب "فكرا خلقا" ليس مجرد دراسة أكاديمية، بل دعوةٌ لإعادة اكتشاف البُعد المقدس في الحياة الإنسانية، عبر فهمٍ أعمق للأساطير والطقوس والنصوص الدينية. يُظهر إلياد كيف أن الصراع بين الزمن المقدس والزمن الدنيوي ليس مجرد ظاهرة تاريخية، بل جزءٌ من الوجود البشري الذي يسعى دائمًا نحو التجاوز والاتصال بالمطلق


_______________


المصادر

١. كنتُ كنزاً مخفياً... عندما "خاطبنا" إله الإسلام في أحاديث قدسية
٢. مصطلحات انثروبولوجية:بدائي
٣. الأساطير ..؟! - منتديات أسواق المربد

إرسال تعليق

0 تعليقات