"استراتيجيات الاستعمار والتحرير" للكاتب والمفكر المصري جمال حمدان (1928–1993)
يُعتبر أحد الأعمال الفكرية المهمة التي تحلل الظاهرة الاستعمارية بمنهجية علمية وفلسفية، مع تركيز خاص على آليات الهيمنة الاستعمارية وسبق المواجهة والتحرر منها. جمال حمدان معروف بكونه جغرافيًا ومفكرًا استراتيجيًا، وكتاباته تتميز بالربط بين الجغرافيا والتاريخ والسياسة.
أبرز أفكار الكتاب:
الاستعمار كظاهرة شاملة:
يركز حمدان على أن الاستعمار ليس مجرد غزو عسكري أو سيطرة سياسية، بل هو نظام متكامل يشمل:الاستغلال الاقتصادي: نهب الموارد الطبيعية والتحكم في الثروات.
الهيمنة الثقافية: تدمير الهوية المحلية عبر فرض اللغة والدين والقيم الغربية.
التقسيم السياسي: خلق كيانات مصطنعة (كالدول القُطرية) لتفكيك الوحدة الجغرافية والتاريخية للأمم.
الاحتلال العسكري المباشر أو غير المباشر: عبر القواعد العسكرية أو الوكلاء المحليين.
استراتيجيات الاستعمار الحديث:
يشرح حمدان تطور الاستعمار من الشكل التقليدي (الاحتلال المباشر) إلى أشكال أكثر خبثًا مثل:الاستعمار الجديد (النيوكولونيالية): السيطرة عبر الشركات متعددة الجنسيات، والديون الدولية، والهيمنة الإعلامية.
التفتيت الداخلي: إثارة النزعات الطائفية أو الإثنية لضمان ضعف المجتمعات المستعمَرة.
التبعية الفكرية: غرس النموذج الغربي كمعيار وحيد للتقدم، مما يؤدي إلى فقدان الثقة بالتراث المحلي.
استراتيجيات التحرير:
يقترح حمدان رؤية شاملة للتحرر تعتمد على:المقاومة الشعبية: تفعيل دور الجماهير في مواجهة الاستعمار، مع التأكيد على أن التحرير لا يتحقق إلا بإرادة داخلية.
إعادة بناء الهوية: استعادة الثقافة واللغة والتاريخ كأساس للوحدة الوطنية.
الاستقلال الاقتصادي: تحقيق الاكتفاء الذاتي وتحرير الاقتصاد من التبعية للخارج.
التكامل الإقليمي: توحيد الجهود بين الدول والشعوب المستعمَرة لمواجهة القوى الاستعمارية.
نقد التحرير الشكلي:
يحذر حمدان من "الاستقلال الوهمي" الذي يقتصر على رحيل الجيوش الأجنبية دون تغيير جذري في بنية السلطة أو الاقتصاد، مما يجعل الدول مُستعمَرة بشكل غير مباشر.الدور المركزي للوعي:
يؤكد أن التحرير الحقيقي يبدأ بتحرير العقل من التبعية الفكرية، ويدعو إلى إنتاج معرفة محلية مستقلة تعكس خصوصية المجتمع وتاريخه.
التحليل الجيوسياسي للاستعمار:
يربط حمدان بين الجغرافيا والاستعمار، موضحًا أن القوى الاستعمارية اختارت مناطق نفوذها بناءً على:
الموقع الاستراتيجي: مثل قناة السويس ومضائق هرمز.
الثروات الطبيعية: كالنفط في الخليج والماس في إفريقيا.
التفكيك الديموغرافي: تشجيع الهجرات الداخلية أو الخارجية لخلق كيانات هشة (مثل تقسيم السودان أو الصومال).
آليات الهيمنة الثقافية:
يتعمق حمدان في تحليل كيف يصبح الاستعمار "حالة ذهنية" عبر:
تعميم النموذج الغربي: تقديم الحداثة الغربية كمسار وحيد للتقدم، وإقصاء النماذج المحلية.
تشويه التاريخ: مثلًا، تصوير الاستعمار على أنه "حضارة" بدلًا من كونه استغلالًا.
اللغة كأداة هيمنة: فرض لغة المستعمر كلغة التعليم والإدارة، مما يؤدي إلى قطيعة الأجيال مع تراثها.
نقد الاستعمار الجديد (النيوكولونيالية):
يرى أن الاستعمار الحديث أكثر خطورة لـ:
التبعية الاقتصادية: عبر صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، الذي يفرض سياسات تخدم مصالح القوى الكبرى.
السيطرة الإعلامية: تحويل الشعوب إلى مستهلكين سلبيين للثقافة الغربية.
النخب المحلية المُستَلبَة: التي تحكم باسم "الوطنية" لكنها تنفذ أجندة خارجية.
رؤيته للتحرير الشامل:
لا يقتصر التحرير على الاستقلال السياسي، بل يشمل:
التحرير الاقتصادي:
التصنيع المحلي.
تقليل الاعتماد على الاستيراد.
تأميم الموارد الحيوية (مثل قناة السويس في نموذج عبد الناصر).
التحرير الثقافي:
إحياء اللغة العربية كلغة للعلم والابتكار.
بناء نظام تعليمي يعزز الهوية ويُنتج معرفة نقدية.
التحرير الاجتماعي:
محاربة التقسيمات الطائفية والإثنية.
تحقيق العدالة الاجتماعية كأساس للوحدة الوطنية.
التحديات التي تواجه التحرير:
يحذر حمدان من:
التبعية الفكرية: تقليد النموذج الغربي دون نقد (مثل الديمقراطية الشكلية دون عدالة اجتماعية).
الاستعمار الداخلي: حين تحل النخب المحلية محل المستعمر في استغلال الشعب.
العولمة كوجه جديد للاستعمار: إذ تُحوّل الدول إلى أسواق استهلاكية وتُفكك سيادتها.
نماذج تطبيقية من الكتاب:
مصر: كيف حولها الاستعمار البريطاني إلى مزرعة قطن لخدمة صناعة النسيج في مانشستر.
الجزائر: محاولة فرنسا محو الهوية العربية والإسلامية عبر فرنسة التعليم والمجتمع.
إفريقيا: تقسيم القارة بحدود مصطنعة أدت إلى حروب أهلية (مثال رواندا وبروندي).
حمدان والواقع العربي المعاصر:
لو عاش حمدان (توفي 1993)، لربما حلل الأحداث التالية كأشكال استعمارية:
الغزو الأمريكي للعراق (2003): تحت شعار "تحرير العراق" بينما الهدف السيطرة على النفط.
الثورات العربية: كيف حوّلها الاستعمار الجديد إلى حروب بالوكالة (سوريا، اليمن).
اتفاقيات التطبيع: رؤيتها كاستمرار لسياسة "فرّق تَسُد" وتفكيك التضامن العربي.
مقارنة مع مفكرين آخرين:
فرانز فانون (كتاب معذبو الأرض): يتفقان على ضرورة التحرير الثقافي والعنف الثوري أحيانًا.
إدوارد سعيد (الاستشراق): يشتركان في نقد الهيمنة الثقافية الغربية.
سمير أمين (المركز والأطراف): يتقاطعان في تحليل التبعية الاقتصادية للجنوب العالمي.
نقد وتقييم الكتاب:
الإيجابيات:
رؤية شمولية تربط بين الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد.
جرأة في فضح آليات الاستعمار الخفية.
السلبيات:
إغفال دور الدين كعامل تحرري في بعض السياقات (مثل الثورة الإيرانية).
تفاؤله بفكرة "الوحدة العربية" رغم تعقيداتها.
الخلاصة:
الكتاب ليس مجرد تحليل للاستعمار، بل مشروع فكري لبناء وعي تحرري، يؤكد أن:
"الاستعمار ينهزم عندما نوقف استعارة عقلنا، ونعيد اكتشاف ذواتنا".
هذا ما يفسر سبب إدراج الكتاب في قوائم "الكتب الخطرة" من قبل أنظمة استبدادية وقوى استعمارية
0 تعليقات