"إعادة التفكير: قوة معرفة ما لا تعرفه" لآدم جرانت
المتسلق والجبل - عندما تصبح الثقة عدوك
تصور نفسك متسلق جبال شابًا، واثقًا من مهاراتك، تتحدى قمة شامخة. خططتك واضحة، معداتك حديثة، وثقتك في ذروتها. تبدأ الصعود بسرعة وإصرار، تتجاهل السحب المتجمعة وتتخطى تحذيرات المرشدين القدامى. "أنا أعرف ما أفعله"، تقول لنفسك. فجأة، تتحول السماء إلى عاصفة ثلجية عاتية، تفقد مسارك، وتجد نفسك عالقًا على حافة. في تلك اللحظة، يتجمد الدم في عروقك، ليس من البرد فقط، بل من إدراك مفاجئ: "ربما كنت مخطئًا". ربما لم تكن تعرف ما كنت تعتقده أنك تعرفه. هذه اللحظة من التواضع الفكري، لحظة "إعادة التفكير"، هي جوهر الكتاب الرائد لعالم النفس التنظيمي آدم جرانت، "Think Again: The Power of Knowing What You Don't Know" (إعادة التفكير: قوة معرفة ما لا تعرفه).
يحذرنا جرانت من فخ "الثقة المفرطة في المعرفة". نحن نعيش في عالم سريع التغير، حيث الحقائق تتطور، والمهارات تصبح قديمة، والمشكلات الجديدة تتطلب حلولًا غير مسبوقة. مهارة البقاء والازدهار لم تعد مجرد امتلاك المعرفة، بل القدرة على مراجعة هذه المعرفة، والتشكيك فيها، والتخلي عنها عند الضرورة، وإعادة تشكيلها من جديد. الكتاب ليس مجرد دعوة للتواضع الفكري؛ إنه دليل عملي يروي قصصًا حقيقية عن كيف يمكن لإعادة التفكير أن تنقذ الأرواح، وتُحدث اختراقات علمية، وتجمع بين الأعداء، وتُطلق العنان للإبداع والنجاح على المستويين الشخصي والمهني.
الجزء الأول: إعادة التفكير كفن التخلي - قصة رجال الإطفاء الذين تحدوا "الطريقة الوحيدة"
يحكي جرانت قصة مأساوية وقعت في غابة مانجوس بولاية نيومكسيكو الأمريكية عام 1949. فريق من رجال الإطفاء المتمرسين، بقيادة "واج دودج"، واجه حريقًا هائجًا. الرياح تغيرت فجأة، وأحاطت النيران بالفريق من كل جانب. وفقًا للبروتوكول الثابت آنذاك، كان عليهم الهروب صعودًا نحو القمة حيث تكون الحرائق عادةً أقل شراسة. لكن دودج، وهو رجل ذو خبرة عميقة، بدأ يشكك في هذا اليقين. لماذا تستمر النيران في التقدم بسرعة مروعة؟ هل القمة حقًا هي الملاذ الآمن؟ في لحظة من الإلهام المخيف، أدرك أن البروتوكول التقليدي سيقودهم إلى الموت المحتمل. بدلاً من الهروب، فعل شيئًا بدا جنونيًا: أشعل نارًا صغيرة حوله في دائرة، ثم استلقى في وسط الرماد المحترق. صرخ في فريقه ليتبعوه: "هنا! هنا سيكون المكان الآمن!". لكن الثقة المفرطة في المعرفة القديمة منعتهم. اعتقدوا أنه فقد عقله. جميعهم ماتوا باستثناء دودج ورجلين آخرين اتبعهما بعد فوات الأوان. لقد نجح دودج لأنه أجرى "إعادة تفكير" جذرية: شكك في افتراض أساسي (الهروب نحو القمة)، تخلى عن المعرفة التقليدية في لحظة حرجة، وابتكر حلًا غير مألوف (إشعال حريق مضاد). هذه القصة ترمز إلى جوهر إعادة التفكير: الشجاعة للتخلي عن الأفكار البالية حتى عندما تبدو "الحقيقة" ثابتة.
التحدي الأول: الجمود الفكري (الركون إلى ما نعرفه): نحن نميل إلى التمسك بمعتقداتنا كجواز سفر هويتنا. التخلي عنها يشعرنا بأننا نفقد جزءًا من أنفسنا. جرانت يشرح أن هذا يشبه "المفارقة الثلاثية": نحن نتمسك بآرائنا عندما نكون أقل دراية بالموضوع، ونرفض تحديثها عندما نكون أكثر دراية (لأننا نعتقد أننا نعرف كل شيء)، ونقاوم التغيير عندما تكون معتقداتنا مركزية لهويتنا.
الحل: عقلية العالم (الفضول والتجريب): بدلاً من التمسك بالمعتقدات كجنرال يدافع عن أراضيه، يقترح جرانت أن نتبنى عقلية العالم (Scientist Mindset). العالم لا يخشى أن يكون مخطئًا؛ بل يرى في كل خطأ فرصة للتعلم. يطرح فرضيات (معتقدات مؤقتة)، يختبرها بصرامة، ويعدلها أو يتخلى عنها بناءً على الأدلة. السؤال الأساسي هنا: "ما الدليل الذي قد يجعلني أغير رأيي؟"
الجزء الثاني: إعادة التفكير الذاتي - قصة الحائزة على نوبل التي فضلت "لا أعرف" على اليقين الزائف
تنتقل القصة إلى مختبر في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، في الستينيات. عالمة الفيزياء الفلكية الشابة، جوسلين بيل بورنيل، كانت تحلل بيانات غريبة من تلسكوب راديوي جديد. لاحظت نبضات منتظمة غامضة. بدلاً من تجاهلها أو افتراض أنها مجرد "ضجيج" أو خلل تقني، اتخذت موقفًا جريئًا: "أنا لا أعرف ما هذا". هذا الاعتراف بعدم المعرفة، هذا التواضع الفكري، هو ما قادها إلى اكتشاف أول "نجم نابض" (Pulsar) – اكتشاف حصل لاحقًا على جائزة نوبل في الفيزياء (للأسف، حصل مشرفها على الجائزة وليس هي، وهي قصة أخرى عن تحيزات). الأهم هو أن بيل بورنيل لم تكن تمتلك إجابات جاهزة؛ بل امتلكت الشجاعة لطرح الأسئلة الصحيحة والاعتراف بالغموض.
التحدي الثاني: الغطرسة الفكرية (وهم المعرفة الكاملة): كثيرون منا، خاصة الخبراء، يقعون في فخ "وهم المعرفة" (Illusion of Explanatory Depth). نحن نعتقد أننا نفهم الأشياء (كيف تعمل الدراجة؟ ما أسباب الحرب؟) بشكل أعمق بكثير مما نفعل فعليًا. هذا يمنعنا من التساؤل والتعلم.
الحل: عقلية المستكشف (التواضع الفكري والفضول): لمواجهة الغطرسة، نحتاج إلى عقلية المستكشف (Explorer Mindset). المستكشف يعترف بأن الخريطة غير مكتملة، بل ربما خاطئة. فضوله يقوده إلى أراضٍ مجهولة، وليس إلى تأكيد ما يعرفه مسبقًا. جرانت يقدم أدوات عملية مثل:
مقياس الثقة: عند التعبير عن رأي، قيّم مدى ثقتك فيه (من 1 إلى 10). هذا يجبرك على التفكير في أساس ثقتك ويفتح الباب للشك البناء.
تحدي التفسير: حاول شرح كيفية عمل شيء تعتقد أنك تفهمه بتفصيل شديد. غالبًا ستكتشف فجوات معرفية كبيرة، مما يجعلك أكثر تواضعًا واستعدادًا للتعلم.
التركيز على "كيف نعلم" بدلاً من "ماذا نعلم": نقاشاتنا غالبًا ما تدور حول الحقائق (ماذا). تحويلها إلى مناقشة حول منهجية الوصول لتلك الحقائق (كيف) يجعلها أكثر عقلانية وأقل شخصنة.
الجزء الثالث: إعادة التفكير الجماعي - قصة الناشط الذي حاور النازيين السابقين
ربما تكون أكثر قصص الكتاب إثارة هي قصة داريل ديفيس، رجل أمريكي من أصل أفريقي، قرر مواجهة الكراهية بطريقة مذهلة: التحدث مع أعضاء في جماعة كو كلوكس كلان العنصرية . لم يذهب ديفيس للجدال أو الإهانة أو الإدانة. ذهب بفضول حقيقي: "لماذا يكرهونني؟ ما الذي قادهم لهذه المعتقدات؟". بدأ ببساطة في الاستماع. كان يطرح أسئلة صادقة ويستمع بإمعان للإجابات، حتى تلك البشعة. المذهل أنه لم يكن يدافع عن نفسه أو عن قضيته في البداية؛ كان يحاول فقط فهم عالمهم الداخلي. هذه المحادثات، القائمة على الاستماع العميق والتواضع والرغبة في الفهم قبل الإقناع، أدت إلى نتائج مذهلة. على مر السنين، أقنع ديفيس العشرات من أعضاء الكلان، بمن فيهم قادة إقليميون، بالتخلي عن معتقداتهم العنصرية والتخلي عن عباءات الكلان. كيف حدث هذا؟ لأنه لم يحاول تغيير عقولهم بالضغط؛ بل خلق مساحة آمنة لإعادة التفكير. عندما شعروا بأنهم مُفهومون (وليس بالضرورة موافقون)، أصبحوا أقل دفاعية وأكثر انفتاحًا على مراجعة أفكارهم المتطرفة.
التحدي الثالث: الاستقطاب والجدال العقيم (عقلية المحاكمة): في النقاشات الحادة (السياسة، الدين، القيم)، نلجأ غالبًا إلى عقلية المحامي : هدفنا هو "الفوز" في الجدال، إثبات خطأ الطرف الآخر، وتقديم الأدلة التي تدعم موقفنا فقط. أو نستخدم عقلية السياسي (Politician Mindset): ندافع عن معسكرنا ونستقطب المؤيدين، بغض النظر عن دقة الحقائق. كلتا العقليتين تعززان الاستقطاب وتقتل إمكانية تغيير الرأي.
الحل: عقلية القاضي (الإنصاف والاستفسار): للتواصل الفعال عبر الخلافات، نحتاج إلى عقلية القاضي (Judge Mindset). القاضي الجيد لا يبدأ بافتراض الذنب أو البراءة؛ بل يسعى للفهم أولاً. الأدوات التي يقدمها جرانت تشمل:
الاستماع لإعادة التفكير : الاستماع ليس للرد، بل لفهم وجهة نظر الآخر حقًا. طرح أسئلة مثل: "ما الذي قادك إلى هذا الاعتقاد؟" أو "هل يمكن أن تخبرني المزيد عن ذلك؟".
تأكيد المشاعر أولاً: الاعتراف بمشاعر الشخص ("أرى أن هذا الموضوع يثير قلقك حقًا") قبل الخوض في الحقائق يقلل من الدفاعية.
إيجاد نقاط الاتفاق : البحث عن قيم أو أهداف مشتركة (مثل الرغبة في الأمان، الازدهار، مستقبل أفضل للأطفال) يوفر أساسًا للبناء عليه.
طرح الأسئلة بدلاً من إلقاء الخطب: الأسئلة الذكية (مثل: "كيف تتوافق هذه الفكرة مع [حقيقة معروفة أو تجربة سابقة]؟") يمكن أن تدفع الطرف الآخر لاكتشاف تناقضاته بنفسه، مما يكون أكثر تأثيرًا من إخباره بها. هذا ما فعله ديفيس ببراعة.
التعبير عن الشكوك في موقفك الخاص: قول شيء مثل "هذا رأيي الآن، لكني لست متأكدًا بنسبة 100%" يجعل الطرف الآخر أكثر انفتاحًا.
الجزء الرابع: إعادة التفكير المؤسسي - بناء ثقافة التعلم المستمر
إعادة التفكير ليست مهارة فردية فقط؛ بل هي ثقافة تحتاج المؤسسات الناجحة إلى بنائها. يروي جرانت قصة شركة "بيكسار" للرسوم المتحركة. نجاحها الأسطوري (توي ستوري، البحث عن نيمو...) لا يعود فقط للموهبة، بل لثقافة "إعادة التفكير" المنهجية. لديهم عملية تسمى "البرين ترست" (Braintrust): اجتماعات منتظمة حيث يُعرض العمل غير المكتمل، ويقدم الزملاء نقدًا صريحًا وبنّاءً، ليس بهدف الهجوم، بل بهدف مساعدة صاحب الفكرة على رؤية الثغرات وتحسين العمل. المفتاح هو فصل النقد عن الشخص (لا أحد يهاجم الفنان) والتركيز على حل المشكلة ("هذه الشخصية لا تثير التعاطف لأنها..."). في بيكسار، "الفشل المبكر والمتكرر" ليس عيبًا؛ بل هو جزء ضروري من العملية الإبداعية. هذا يتطلب ثقافة من الثقة النفسية – الشعور بأنه يمكنك التعبير عن الشكوك أو الأخطاء دون خوف من العقاب أو السخرية.
تحديد "طقوس إعادة التفكير": مثل اجتماعات المراجعة الدورية التي تركز على "ما الذي يمكننا فعله بشكل مختلف؟" بدلاً من "من المخطئ؟".
تشجيع "المعارض المخلص" : تعيين أشخاص أو تشكيل فرق مهمتها الأساسية هي تحدي الافتراضات السائدة وطرح البدائل.
الاحتفاء بتغيير الرأي: عندما يغير قائد رأيه علنًا بناءً على أدلة جديدة، يجب أن يُرى هذا كعلامة قوة وذكاء، لا كضعف.
التقييم بناءً على التعلم: ليس فقط على النتائج النهائية، بل على مدى قدرة الفرد أو الفريق على التكيف والتعلم من التجارب.
الخاتمة: إعادة التفكير كرحلة لا تنتهي - العودة إلى المتسلق
تذكر متسلق الجبال في العاصفة؟ لحظة إدراكه لخطئه كانت بداية نجاته. ربما تخلى عن هدف الوصول للقمة في ذلك اليوم، لكنه اكتسب شيئًا أغلى: الحكمة ليعيد تقييم خططه، ويستمع لنصائح الخبراء، ويتبنى استراتيجية جديدة. ربما عاد لاحقًا وأكمل الصعود بأمان، أو اختار قمة أخرى أكثر ملاءمة.
هذه هي قوة "إعادة التفكير" التي يقدمها آدم جرانت. إنها ليست علامة ضعف، بل أعلى درجات الذكاء والقوة. إنها الشجاعة لقول "لا أعرف"، والمرونة للتخلي عن الأفكار البالية، والفضول لاستكشاف المجهول، والتواضع للاستماع حتى لمن نختلف معهم بشدة، والإصرار على التعلم مدى الحياة في عالم لا يتوقف عن التغير. الكتاب دعوة للتحرر من سجن معتقداتنا المطلقة، والخروج إلى رحابة الفكر المتجدد. كما يقول جرانت: "من لا يستطيع تغيير رأيه، لا يستطيع تغيير أي شيء."
إعادة التفكير هي البوصلة التي ترشدنا في رحلة التطور المستمر، الشخصي والمهني والمجتمعي. أي قصة من قصص إعادة التفكير هذه ستظل تراودك وتلهمك لإعادة النظر في يقينياتك الخاصة؟
0 تعليقات