"زقاق المدق" نجيب محفوظ
تجسيد حيّ لواقع اجتماعي غارق في التناقضات
رواية "زقاق المدق" للكاتب المصري الكبير نجيب محفوظ ليست مجرد سرد لوقائع تحدث في زقاق صغير بحي الحسين بالقاهرة، بل هي مرآة تعكس بمهارة التحولات الاجتماعية، والتناقضات النفسية، والانهيارات الأخلاقية التي اجتاحت المجتمع المصري خلال حقبة الأربعينيات من القرن العشرين، خاصة في ظل الحرب العالمية الثانية.
بأسلوبه الواقعي المميز، ينسج محفوظ خيوط الحكاية من داخل الزقاق، حيث تترابط مصائر أبطاله في فضاء مغلق، لكن أصداء العالم الخارجي تتسرب إليه عبر السياسة، والاحتلال، والفقر، والفساد، والاختيارات الفردية، فيطرح علينا أسئلة كبرى عن الحرية، والشرف، والهوية، والمصير.
الزقاق: شخصية مستقلة
"زقاق المدق" ليس مجرد مسرح للأحداث، بل يكاد يكون شخصية حية بحد ذاتها. زقاق صغير لا يتجاوز طوله عشرة أمتار، يقع في حي الحسين الشعبي العتيق، تغمره الروائح والتقاليد والقصص المتوارثة، ويتشكل من بيوت متراصة ومقهى "كرشة" الذي يمثل مركز الحياة فيه.
يمثل الزقاق صورة مصغرة للمجتمع المصري، ففيه تتلاقى كل تناقضات الواقع: الفقر والغنى، الطموح والاستسلام، الجريمة والفضيلة، الدين والانحراف. كل شخصية في الرواية تمثل وجهًا من أوجه هذا الزقاق، وهذا ما يجعل الرواية تحمل قيمة رمزية كبيرة.
الشخصيات الرئيسية
1. حميدة: بين الجمال والضياع
هي بطلة الرواية المركزية. فتاة جميلة، يتيمة، تعيش مع زوجة أبيها. يمثل جمالها نقمة أكثر منه نعمة، إذ يصبح سلاحًا في يد الآخرين. تحلم بالثراء والتحرر من قيود الفقر والزقاق، لكنها لا تملك أدوات هذا التحرر إلا جسدها.
حميدة تمثل نموذجًا للفتيات اللاتي يسقطن في فخ الاستغلال والعهر تحت ستار الطموح. عندما تقع في قبضة رجل يدعى "فرج"، يغرّر بها ويدفعها للعمل في الدعارة تحت مسمى "الراقصات"، لا تتردد في مواصلة الطريق، مبررة لنفسها بأن المجتمع لا يرحم، وأن الفرصة لا تُهدى بل تُنتزع.
رغم سقوطها، فإن شخصية حميدة تظل مركبة: ليست شريرة خالصة، ولا ضحية تمامًا، بل إنسانة تتقاذفها الظروف والخيارات في زمن مهتز القيم.
2. عباس الحلو: الحلم الذي قُتل
شاب بسيط، حلاق في الزقاق، يحب حميدة بصدق ويرغب في الزواج منها. يقرر السفر والعمل مع الجنود الإنجليز لجمع المال اللازم للزواج. تجسد شخصية عباس الخير والطموح والنية الصافية، لكنه يسقط ضحية واقعه القاسي.
عندما يعلم بانحراف حميدة، يصاب بصدمة قاسية، لكنه يصر على إنقاذها، ليُقتل في مشادة مع الجنود البريطانيين، في نهاية مأساوية تشير إلى سحق الطيبين في مجتمع لا يرحم.
3. فرج: الوجه البشع للاستغلال
هو القوّاد الذي يستدرج حميدة من الزقاق إلى عالم الدعارة والفساد. شخصية انتهازية، باردة، تستغل الآخرين لمصالحه الشخصية. لا يحمل أي شعور بالندم أو الذنب، بل يرى أن ما يفعله "فرصة" في زمن الحرب والانفلات.
فرج هو تمثيل للطبقة التي تتغذى على آلام الآخرين، وتُزدهر في الفوضى.
4. شخصيات الزقاق الأخرى
-
الشيخ درويش: شخصية فلسفية/صوفية تتكلم بالأمثال والحكم، تمثل الضمير والوعي الجمعي، وإن كانت مهمشة.
-
حسين كرشة: صاحب المقهى، رجل انتهازي، تاجر مخدرات لاحقًا، يرمز لسهولة التحول من شخصية عادية إلى مجرم في غياب الرقابة الاجتماعية.
-
سنية وسيدة: نساء الزقاق، كل منهن تمثل وجهًا من أوجه المرأة التقليدية بين الخضوع والمكر.
الخلفية الزمنية: حرب عالمية وثقافة منهارة
تقع أحداث الرواية أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث كانت مصر خاضعة لنفوذ الاحتلال البريطاني. ويظهر في الرواية كيف أثرت الحرب على المجتمع:
-
انتعاش اقتصادي سريع للبعض بسبب خدماتهم للجيش البريطاني.
-
تفشي الفقر والمخدرات والجريمة.
-
تغير في القيم: أصبح المال هو المحور، والشرف أمرًا نسبيًا.
-
ظهور فئة جديدة من المتسلقين والانتهازيين.
رمزية الرواية
-
الزقاق = الوطن المقيد، المغلق على نفسه، والذي ينتج شخصيات مشوهة بسبب الضغط الاجتماعي والسياسي.
-
حميدة = مصر، التي كانت جميلة وطموحة، ثم تم استغلالها وتشويهها في ظل الاحتلال والتغيرات.
-
عباس = المواطن الصادق الذي يضحي ويموت دون تحقيق حلمه.
-
فرج = الاستعمار، الذي يغري ويخدع ويدمر.
الأسلوب الأدبي
نجيب محفوظ يستخدم أسلوبًا واقعيًا دقيقًا في السرد والوصف. يصف الزقاق بتفاصيله الصغيرة: صوت الباعة، رائحة القهوة، أنفاس الفقراء.
حوار الشخصيات يعكس البيئة الشعبية المصرية الأصيلة. كذلك، يظهر تأثير السينما والمسرح على السرد من حيث بناء المشاهد وتوزيع الحوار.
كما يعتمد محفوظ على الرمز دون افتعال، ويمزج بين التوثيق الاجتماعي والنفسية العميقة لكل شخصية، ما يجعل الرواية أدبية، إنسانية، وسياسية في آن.
الدروس والعبر من الرواية
-
المجتمع الذي لا يهيئ مناخًا عادلًا، يدفع أبناءه نحو الضياع والانحراف.
-
المرأة قد تتحول إلى ضحية أو أداة حسب الفرص والظروف.
-
الفقر ليس ماديًا فقط، بل أيضًا فقر في القيم والمعنى.
-
لا يكفي أن تكون طيبًا أو محبًا، بل يجب أن تكون واعيًا وقادرًا على الدفاع عن نفسك.
رواية "زقاق المدق" عمل فني وإنساني عظيم، يختزل في صفحاته واقعًا عربيًا لا يزال يعيد نفسه بصور مختلفة.
إنها ليست فقط قصة حميدة وعباس، بل قصة مجتمع بأكمله فقد بوصلته وسط العواصف، فخرج منه من يُباع ومن يُستغل، ومن يحاول المقاومة ويفشل.
نجيب محفوظ بهذا العمل يقدم لنا وثيقة أدبية تتجاوز الزمن، تؤكد أن الأدب الحقيقي لا يصف الواقع فقط، بل يشرح أسبابه ويدق ناقوس الخطر.
0 تعليقات