"السراب" لنجيب محفوظ
تشريح نفسي لصراعات الإنسان المعذب
تمهيد: محطة فريدة في مسار محفوظ الأدبي
صدرت رواية "السراب" عام ١٩٤٨ كواحدة من الأعمال المبكرة لنجيب محفوظ، حيث تمثل تحولاً نوعياً في مساره الإبداعي. فبعد مرحلة الروايات التاريخية مثل "عبث الأقدار" و"رادوبيس"، اتجه محفوظ هنا إلى استكشاف أعماق النفس البشرية بمنهج واقعي نفسي، متخلياً عن الإطار الاجتماعي الواسع الذي ميز أعماله اللاحقة مثل "الثلاثية". تُعد الرواية - بحسب نقاد - أول عمل عربي يركز على التحليل النفسي للشخصية بهذا العمق، مقدماً دراسةً دقيقةً لآثار التربية الفاسدة على تكوين الإنسان .
الإطار السردي: صوت من أعماق الجرح
تتميز الرواية باختيارها ضمير المتكلم، حيث يسرد البطل "كامل رؤبة لاظ" ذكرياته منذ الطفولة حتى سن الثلاثين، في تقنية سردية تعكس تأثير مدرسة "تيار الوعي" في الأدب العالمي. يبدأ كامل مذكراته بالاعتراف:
"ألم آوِ عمري إلى الصمت والكتمان؟ ألم تظفر الأسرار من صدري بقبرٍ مغلقٍ تستكنُّ فيه وتموت؟" .
هذا الاختيار السردي يخلق إحساساً بالانغماس في عقل البطل، رغم ما يحمله من قصور في إدراك الشخصيات الأخرى. يبرر محفوظ هذا القصر الفني بأنه انعكاس لانطوائية البطل التي تجعله عاجزاً عن رؤية العالم إلا من زاويته الضيقة .
الشخصيات: عمارة نفسية معقدة
كامل رؤبة لاظ: البطل الذي يحمل سمات "ضد البطل" (Anti-hero)
نشأته: ينشأ في بيت جده لأمه بعد طلاق أمه من أبيه السكير، حيث يحاصر بدلال أمه المرضي
سماته: الخجل المرضي (Social Anxiety Disorder) الذي يعيق تفاعله الاجتماعي، والشرود الذهني الذي يفقده التركيز في الدراسة
صراعاته: عجزه عن إقامة علاقات صحية، وفشله المتكرر في التعليم والعمل والزواج .
الأم (إقبال): مهندسة المأساة
دوافعها: فقدان ابنيها السابقين (راضية ومدحت) اللذين أخذهما الأب، فتحول كامل إلى "تعويض مرضي"
آليات تدميرها:
منعه من اللعب مع الأطفال
مشاركته السرير حتى سن 25 عاماً
تعزيز اعتماديته عليها .
شخصيات محورية أخرى:
رباب: زوجة كامل التي تتحول إلى ضحية لشكوكه
الطبيب النفسي: الذي يشتبه كامل في علاقته بزوجته
المرأة "البدينة الدميمة": تُمثل نزوله إلى الحضيض الأخلاقي .
الحبكة: سقوط متدرج في دوامة الهروب
الطفولة المشوهة:
تنكسر شخصية كامل مبكراً حين يناديه مدرسه "يا نينة" (تصغير "أم") سخريةً من تعلقه المرضي بأمه، لتصبح هذه الكنية مصدر سخرية دائمة. فشله في التعليم يدفع جده إلى تدريسه في المنزل، ما يعزز عزلة الصبي .
أزمة الرجولة:
عندما يقع كامل في حب "فتاة الترام" (رباب)، تظهر عجزه عن التعبير عن مشاعره لمدة عامين. يتجرأ أخيراً للزواج بعد موت أبيه الذي يورثه مالاً، لكن ليلة الزفاف تكشف عجزه الجنسي - الذي يؤكده الطبيب أنه نفسي لا عضوي. تتحول هذه الأزمة إلى شك مرضي في زوجته .
الهروب إلى الهاوية:
التلصص: يترك عمله ليراقب زوجته، وفي لحظة سوداوية يقع في علاقة مع امرأة "سمينة دميمة" يراها من شرفة مقابلته
الخيانة المزدوجة: بينما يبحث عن خيانة زوجته، يرتكب هو الخيانة
المأساة النهائية: موت رباب أثناء إجهاض غير شرعي، واتهام كامل للطبيب النفسي بأنه والد الجنين، ثم موت أمه في اليوم التالي بعد مشادة عنيفة .
التحليل النفسي: بين أوديب والانكسار
تقدم الرواية نموذجاً كلاسيكياً لعقدة أوديب (Oedipus Complex) حيث:
التعلق الجنسي اللاواعي بالأم
كراهية الأب المنافس
العجز عن إقامة علاقة ناضجة مع أنثى أخرى.
لكن محفوظ يضيف بُعداً اجتماعياً حيث تفسر البيئة:
التربية الخانقة: التي تحول الحب إلى تدمير
الخجل كعائق وجودي: يصف كامل نفسه:
"حالَ خجلي الشديدُ ونفوري من الناس دونَ اكتسابِ صديق، وضيَّع شرودُ ذهني عليَّ اجتهادي"
الهروب كآلية دفاع: من المدرسة إلى الجامعة إلى الخمر إلى العلاقات المحرمة .
الأبعاد الفلسفية: الحياة سرابٌ خادع
يُحيل العنوان "السراب" إلى رؤية محفوظ للحياة كـ:
وهم يُطارَد: فكامل يظن أن الزواج سيحرره، والمال يحقق سعادته، لكن كل حل يصير مشكلة جديدة
حتمية المعاناة: "إن كل عذابٍ نصاب به في هذه الدنيا حقٌ وعدلٌ لأننا نتفانى في حبِّها على حين أنها لا تستحقُّ إلا المقت"
استحالة الفداء: النهاية المفتوحة تُظهر كامل عالقاً مع العاهرة التي لا يحبها، بلا أمل في الخلاص .
الجدل النقدي: بين العبقرية والإفراط
أثارت الرواية نقاشات نقدية حول:
مشهد التلصص: يرى بعض النقاد أن تفاصيل مراقبة كامل لزوجته من المقهى وإغوائه بالمرأة البدينة يُضعف القيمة الرمزية، ويُسقط القارئ في التفاصيل بدلاً من ترك التأويل له .
المبالغة في المرضية: تساءل البعض عن واقعية استمرار نوم كامل مع أمه حتى منتصف العشرينيات.
الحكاية الشعبية: يشاع أن شخصاً حقيقياً اعتقد أن الرواية تسرد سيرته، فحاول اغتيال محفوظ، لكن هذا يتناقض مع طبيعة الشخصية الخجولة .
السراب بين الأدب والسينما: إشكالية التحويل
حُولت الرواية لفيلم سينمائي عام ١٩٧٠ بطولة نور الشريف وماجدة، لكن العمل السينمائي - كعادة معظم أفلام محفوظ - ركز على الجانب الإيروتيكي على حساب العمق النفسي. أهمل الفيلم:
تعقيدات العلاقة مع الأم
السياق التربوي للأزمة
الرؤية الفلسفية للمعاناة الإنسانية .
نصٌ تأسيسي في أدب النفس
"السراب" تظل عملاً مؤسساً للأدب النفسي العربي، تزيح الستار عن:
آثار التربية الفاسدة كبذور للأمراض النفسية
الخجل كسجنٍ وجودي يُعطل إنسانية الفرد
استحالة الهروب من الذات.
في كامل رؤية لاظ، يخلق محفوظ نموذجاً لإنسان القرن العشرين: منفصلاً عن جذوره، عاجزاً عن التكيف، مثقلاً بأمراض الحضارة. الرواية - رغم قتامة رؤيتها - تظل تحذيراً من أن الحب المشوّه قد يكون أقسى من الكراهية .
"لقد ضاعت الحياة، والقلم ملاذ الضائع" - أول سطر في "السراب" يُختتم به المقال.
0 تعليقات