السكرية

 


السكرية لنجيب محفوظ

 التحولات الجذرية ونهاية البطريركية في ختام الثلاثية

الإطار التاريخي وأهمية الرواية

"السكرية" (1957) هي الخاتمة المأساوية لثلاثية نجيب محفوظ الحائزة على نوبل، تدور أحداثها بين عامي 1934 و1944، وتُمثل ذروة تفكك أسرة عبد الجواد كرمز لتفكك النسيج الاجتماعي المصري. تنتقل الرواية من حي الجمالية إلى حي السكرية – الاسم الذي يحمل دلالات مزدوجة: جغرافياً يشير إلى منطقة تاريخية في القاهرة، ورمزياً يُلمح إلى "السُكْر" بمعنى الغفلة والانحلال والبحث المستحيل عن الحقيقة . في هذا العمل، يتحول البيت من حصن منيع إلى ركام، والأحفاد من ضحايا التربية إلى قوى دافعة للتغيير السياسي والفكري، في مشهد يُجسد صراع مصر بين التقاليد والحداثة قبيل منتصف القرن العشرين.


السياق التاريخي: مصر في ظل الحرب العالمية الثانية

  • التحولات السياسية: تُصوِّر الرواية مصر وهي تعيش تبعات إخفاق ثورة 1919، مع صعود التيارات الأيديولوجية المتنافسة (الإخوان المسلمين، الشيوعية، الليبرالية) في فراغ السلطة بعد موت سعد زغلول (1927) .

  • الأثر الاجتماعي للحرب: غارات الطيران الألماني على القاهرة (1943) تُستخدم كخلفية درامية ترمز إلى الانهيار النهائي لعالم "سي السيد"، حيث يُجبر القصف العائلات على الخروج من عزلتها إلى الشوارع، في مشهد يُحاكي انكشاف المجتمع أمام صدمات التاريخ .

  • دلالة الزمن الروائي: تبدأ الأحداث بعد ثماني سنوات من نهاية "قصر الشوق"، لترصد تحولات جيل الأحفاد – وهم أبناء خديجة وعائشة وياسين – الذين نشأوا في ظل انهيار السلطة الأبوية التقليدية .


الشخصيات: تشريح جيل الأحفاد وأزمة كمال الوجودية

◼️ جيل الأحفاد: تمزق الأسرة في مواجهة التعددية الأيديولوجية

  • عبد المنعم ابن خديجة: يمثل التيار الإسلامي المتشدد عبر انضمامه لجماعة الإخوان المسلمين. زواجه من "نعيمة" (ابنة عائشة) ثم موتها أثناء الولادة يُحول علاقته بالدين من إيمان إلى تعصب، كرد فعل على فقدان السيطرة على القدر .

  • أحمد ابن خديجة: ينتمي للتيار الشيوعي عبر عمله في مجلة "الإنسان الجديد". زواجه من "سوسن حماد" اليهودية (رمز التحرر من الطبقية) وتحديه لاعتراضات أمه يعكس قطيعة الجيل الجديد مع التقاليد .

  • رضوان ابن ياسين: يجسد الفساد السياسي في مصر الملكية. صعوده السريع كسكرتير للوزير "عبد الرحيم باشا" – بعد علاقة غامضة – يكشف آلية المحسوبية التي حكمت النظام .

"أصبح رضوان مضرب المثل في أسرته لأنه ’على صلة بكبار الساسة‘... لكنه دفع كرامته ثمناً لذلك" .

◼️ كمال: الفيلسوف التائه في متاهات الوجود

  • الحب المستحيل: عودته لملاحقة "بدور" (أخت عايدة شدّاد) بعد انهيار أسرة شداد الأرستقراطية، تُظهر فشله في التحرر من شبح الماضي. قراره المفاجئ بقطع العلاقة معها يؤكد خوفه من الزواج كخيانة لفلسفته في الحرية .

  • الأزمة الوجودية: مقالاته عن داروين ونقاشاته مع أبيه حول الإلحاد تُفضي به إلى سؤال مركزي: "ما الحب؟ … ما البُغض؟ … ما الجمال؟" . هروبه إلى بيوت الدعارة (مثل "عطية" و"جليلة") ليس بحثاً عن المتعة بل محاولة يائسة لاختبار حدود الجسد كبديل عن الروح .

◼️ عائشة: المأساة المجسدة

تحولها من "آية في الجمال" إلى امرأة "تُدخّن وتشرب القهوة طوال اليوم" بعد موت ابنيها بمرض التيفوئيد وموت زوجها، يجعلها أيقونة للمعاناة الأنثوية في الأدب العربي. فقدانها "نعيمة" (ابنتها الوحيدة) أثناء الولادة يدفعها إلى حافة الجنون، في مشهد يُختزل فيه كل ظلم القدر .


الأحداث المحورية: من الزواج إلى الموت كاستعارة للتحول الوطني

  1. الرفض والندم: تكرُّر فشل مشاريع الزواج كاستعارة لانغلاق المستقبل. رفض أسرة عبد الجواد تزويج "نعيمة" لـ"فؤاد الحمزاوي" (ابن عامل) بدعوة الطبقية، ثم ندمهم عندما يصبح "فؤاد" أعلى منهم مكانة، يكشف زيف التقاليد .

  2. اعتقال الأحفاد: مشهد اعتقال "أحمد" و"عبد المنعم" بتهمة الانتماء لتنظيمات سياسية، يؤكد أن الصراع لم يعد أسرياً بل وطنياً. إصرارهما على مواصلة النضال بعد الإفراج عنهما يُشير إلى استحالة العودة للماضي .

  3. موت السيد أحمد: مشهد موته بعد عودته من الملجأ أثناء الغارة الألمانية، يحمل رمزية مزدوجة:

    • جسدياً: انهيار الرجل الذي كان "إلهاً" لأسرته.

    • سياسياً: نهاية النموذج البطريركي الذي حكم مصر .

  4. الزواج كتمرد: زواج "أحمد" من "سوسن" (الاشتراكية) و"عبد المنعم" من "كريمة" (ابنة ياسين) رغم اعتراضات الأمهات، يؤكد انتصار إرادة الجيل الجديد .


الثيمات الفكرية: أسئلة الهوية والانتماء

◼️ الصراع الأيديولوجي كمرآة للتمزق الوطني

  • الإسلام vs الشيوعية: يمثله الصدام بين "عبد المنعم" و"أحمد". مشهد اعتقالهما معاً رغم اختلاف مبادئهما يرمز إلى فشل المشروعين في تحقيق التحول الديمقراطي .

  • الانتهازية السياسية: مسار "رضوان" يكشف تحول الأحزاب (مثل الوفد) إلى أدوات للترقي الاجتماعي، حيث يقول: "الانتخابات مزورة... لكنها تُعترف بها رسمياً!" .

◼️ المرأة بين الضحية والمقاومة

  • عائشة: تتحول من رمز الجمال السلبي إلى نموذج للمرأة المكسورة بعد فقدان كل أبنائها.

  • خديجة: صراعها مع حماتها "أم شوكت" حول طبق "الشركسية" يُجسد بداية تمرد النساء على هيمنة العائلة الممتدة .

  • سوسن: دخولها كزوجة يهودية للعائلة المسلمة، يمثل اختراقاً للتابوهات الدينية والطبقية .

◼️ الفن كملاذ أخير

احتفاء "كمال" بشكسبير في محاضرته، وصداقته مع الأديب "رياض قلدس"، توحي بأن الأدب قد يكون الملاذ الوحيد في عالم ينهار. هذه الفكرة تعكس تجربة محفوظ نفسه الذي قال: "يمكن تقديم الفلسفة من خلال الأدب" .


البناء الفني: تقنيات السرد وتحولات اللغة

  • الزمن المتقطع: تقفز الأحداث بين سنوات (1934-1944) دون تغطية متصلة، محاكيةً تشظي الذاكرة المصرية في حقبة الاضطراب .

  • المونولوج الداخلي: يسود في مشاهد كمال، خاصة أثناء حيرته بين "بدور" وبيوت الدعارة:

    "كأنما أحبَّ ليَتفقَّه في معجم الألم..." .

  • الرمزية التاريخية:

    • موت سعد زغلول: نهاية مرحلة النضال "النظيف".

    • صفارات الإنذار: انكشاف المصير الفردي أمام صدمات التاريخ الكبرى .

  • المفارقة الساخرة: انتقال "كمال" إلى بيت "جليلة" (عشيقة أبيه السابقة) يؤكد دورة الانحلال المتوارثة .


الجدل الثقافي والإرث الأدبي

  • هجوم المحافظين: هوجمت الرواية لتصويرها الخمر والدعارة والإلحاد صراحةً، حتى أن بعض القراء نصح بعدم قراءتها "للمحافظين" .

  • الأبعاد الفلسفية: يُرى في تطور فكر كمال انعكاس لرحلة محفوظ من الفلسفة إلى الأدب، حيث تخلى عن رسالة الماجستير عن "الجمال في الفلسفة الإسلامية" ليكتب الرواية .

  • التأثير العالمي: وصفت لجنة نوبل الثلاثية بأنها "عمل يمتلك قوة السرد الكوني"، بينما وصفها الناقد أنطون شماس في نيويورك ريفيو أوف بوكس بأنها "جدار الصين الذي يقف في طريق الكتاب العرب الجدد" .


 لماذا تظل "السكرية" مرآة لمصر الحديثة؟

"السكرية" ليست مجرد خاتمة لسرد عائلي، بل هي تشريح لجذور الأزمات المعاصرة:

  1. أزمة المثقف: حيرة كمال بين الإيمان والعلم، بين الحب والزواج، بين الفن والواقع، تُجسد معضلة المثقف العربي العالق بين هويات متصارعة.

  2. الصراع الأيديولوجي: تحول الأخوين "أحمد" و"عبد المنعم" إلى خصوم سياسيين رغم نشأتهما في بيت واحد، يُحاكي انقسام المجتمعات العربية بين مشاريع فكرية متعادية.

  3. المرأة كضحية للتغيير: موت "نعيمة" أثناء الولادة بعد رفضها خطبة "فؤاد"، وانهيار "عائشة" بعد فقدان أسرتها، يذكرنا بأن التحولات الكبرى تدفع النساء ثمناً غالباً ما يُغفل حسابه.

  4. الفساد كبنية مؤسسية: صعود "رضوان" عبر المحسوبية يُظهر كيف تُورث الأنظمة الفاسدة أدواتها عبر الأجيال.

في المشهد الختامي، حيث يشتري "كمال" ربطة عنق لموت أمه، ويشتري "ياسين" أغراضاً لمولود جديد، يختزل محفوظ رؤيته للحياة: دورة لا تنتهي من الفقد والأمل، حيث يُدفن الماضي بينما يُولد المستقبل من رحم المعاناة. وكما قال محفوظ في الرواية:

"إني أُومِن بالحياة والناس... وهذا هو معنى الثورة الأبدية" .

"السكرية" تخبرنا أن الثورات الحقيقية ليست تلك التي تغير الحكومات، بل تلك التي تُعيد تشكيل العائلات

إرسال تعليق

0 تعليقات