اللص والكلاب

 


 اللص والكلاب لنجيب محفوظ

صراع الإنسان والعبث في عالم متغير

متعد رواية "اللص والكلاب" (1961) للروائي المصري نجيب محفوظ علامة فارقة في الأدب العربي الحديث، تمثل بداية مرحلة "الرواية الفلسفية" في مسيرة الأديب الحائز على نوبل. مستوحاة من قصة حقيقية لسجين هارب اسمه محمود أمين سليمان شغلت الرأي العام المصري عام 1961 ، تقدم الرواية رؤية وجودية لصراع الفرد ضد المجتمع والخيانة. .

السياق التاريخي والأدبي

ظهرت الرواية في مرحلة تحول سياسي وفكري بمصر ما بعد ثورة 1952، حيث كانت المجتمع يعيد تشكيل قيمه. تعكس شخصية سعيد مهران تمزق الإنسان بين آمال التغيير ومرارة الخيبة، وهو ما يتوازى مع إحباطات المرحلة . تمثل العمل نقطة تحول في مسار محفوظ من الواقعية الاجتماعية (كما في الثلاثية) إلى الاستكشافات الفلسفية، حيث تدمج تقنيات تيار الوعي والرمزية السريالية مع إطار واقعي نقدي .

الملخص السردي: رحلة الانتقام والفشل

تدور الأحداث في القاهرة خلال أربعة أسابيع بعد خروج سعيد مهران من السجن:

  • الفصول 1-4 (البذور الأولى للانتقام):
    يخرج سعيد بعد أربع سنوات سجناً بتهمة سرقة دبرها صديقه عليش سدرة ليزوجه زوجته نبوية ويستولي على أمواله. عند عودته، يجده المجتمع قد تنكر له: ابنته سناء ترفض مصافحته، وعليش ينكر وجود أمواله، وصديقه القديم رؤوف علوان (الصحفي الثوري الذي أصبح نجمًا اجتماعيًا) يقدم له عشرة جنيهات ثم يطرده من منزله. هذه الخيانات تشعل قرار الانتقام.

  • الفصول 5-10 (الانتقام المعكوس):
    بالتحالف مع نور (فتاة الليل المنبوذة) وطرزان (صاحب مقهى الساقطين)، يحصل سعيد على مسدس. يحاول قتل عليش لكن رصاصته تصيب شعبان حسين (ساكن جديد في المنزل) بدلاً منه. هنا تتحول الرواية إلى تراجيديا: الضحية بريئة، والقاتل يصبح مطارَداً، والكلاب الحقيقون (عليش – نبوية – رؤوف) يفلتون .

  • الفصول 11-18 (السقوط في الهاوية):
    يختبئ سعيد في منزل نور المقابل للمقبرة، حيث تتدفق ذكرياته عن زواجه بنبوية وخيانة رؤوف الذي كان يعلّمه سرقة الأغنياء "كحق مشروع". يرتدي بدلة ضابط (يخيطها بنفسه) لمحاولة اغتيال رؤوف، لكن الرصاصة تقتل حارسه البريء. بعد أن تصبح نور مهددة بالإخلاء، يلجأ إلى شيخه علي الجنيدي، لكن الشرطة تحاصره. تنتهي الرواية بمشهد موته في المقبرة بلامبالاة، كما عاش .

تحليل الشخصيات: وجوه الخيانة والخلاص

الشخصيةالدور الرمزيالصراع مع سعيد
سعيد مهرانالضحية-الجلاد الباحث عن العدالةصراع وجودي مع الذات والمجتمع
رؤوف علوانخيانة المبادئ (الثوري الذي أصبح فاسداً)يمثل انهيار الأيديولوجيا
عليش سدرةخيانة الصداقة والثقةانهيار القيم الإنسانية
نورالخلاص العاطفي والإنسانيالبديل الأخلاقي للمجتمع الزائف
الشيخ الجنيديصوت الضمير والروحانياتالصراع بين الثأر والتسامح

تتجلى عبقرية محفوظ في تشكيل نور كمرآة مضادة لـ"الكلاب": فهي المنبوذة اجتماعياً التي تمنح الحب والإيواء، بينما النخبة (رؤوف) تبيع المبادئ. وفي حوارها الشهير لسعيد: "أحطك في عيني وأكحل عليك" ، تختزل إنسانية تتناقض مع خطابات رؤوف الزائفة.

الثيمات الكبرى: العبث والعدالة والهوية

  • الانتقام كفخ عبثي:
    يحوّل سعيد الانتقام إلى "مهمة وجودية" تعطي حياته معنى، لكن كل محاولة تزيده عجزاً: قتل الأبرياء، هروب الأعداء، تحوله إلى "وحش" في الصحف. المشهد الأخير في المقبرة يؤكد أن سعيه كان دائرة مفرغة .

  • خيانة المبادئ vs خيانة الأشخاص:
    بينما يرى سعيد أن خيانة نبوية وعليش "يمكن احتمالها"، فإن خيانة رؤوف للمبادئ الثورية غير قابلة للغفران. هنا يوجه محفوظ نقداً لاذعاً للانتهازية السياسية في حقبة التغيرات الاجتماعية .

  • الهوية والانتماء:
    يفقد سعيد كل مرتكزات هويته: الأب (بعد رفض سناء له)، الصديق، الزوج، الرفيق الفكري (رؤوف). حتى الشيخ الجنيدي - ممثل الهوية الدينية - يفشل في إنقاذه. نور وحدها تعترف بإنسانيته، لكنه يرفض هذا الخلاص .

  • الكلاب كاستعارة اجتماعية:
    الكلاب ليست مجرد أعداء سعيد، بل هي تجسيد للفساد المجتمعي. في مشهد مقبرة النهاية، يصبح سعيد هو "الكلب" الذي يطارده المجتمع، مكتملاً تدمير هويته .

الأسلوب والتقنيات السردية

  • تيار الوعي:
    نرى العالم بعيون سعيد من خلال تداعي ذكرياته (طفولته مع الشيخ، زواجه، السجن) التي تظهر كفلاشباك أثناء اختبائه. هذه التقنية تعمق فهمنا لهوسه بالانتقام .

  • الرمزية المكانية:

    • السجن: قمع النظام.

    • مقهى طرزان: فضاء الانتهازيين.

    • منزل نور بالمقبرة: الحياة والموت المتلازمان.

    • قصر رؤوف: انفصال النخبة عن الشعب .

  • المفارقات الساخرة:
    هروب سعيد من بيت الشيخ (رمز التصوف) إلى بيت نور (رمز الدعارة) يعكس تناقض مسعاه. كما أن فشله في قتل الأعداء بينما يقتل الأبرياء يسخر من عدالة انتقامه .

الإرث الأدبي والسياق النقدي

تعد الرواية من أوائل الأعمال العربية التي تبنت الرؤية الوجودية الغربية (خاصة كامو وسارتر) لكن في سياق عربي. نقدها اللاذع لفساد النخبة بعد الثورة جعلها عملاً "مُستفزّاً" عند صدورها . اليوم، تُدرَّس الرواية عالمياً كنموذج لـ:

  • تمازج الواقعية النقدية مع العبثية.

  • تشريح سيكولوجيا المهمشين.

  • تفكيك خطاب "البطل الثائر" .

الخاتمة: لماذا تظل الرواية ضرورية؟

بعد ستة عقود من نشرها، لا تزال "اللص والكلاب" مرآة لأزمات المجتمعات العربية: صعود الانتهازيين، انهيار المثالية الثورية، معاناة السجناء السياسيين، وأزمة البحث عن العدالة. في سعيد مهران - الذي يرفض في النهاية كلمات الشيخ الجنيدي القرآنية: "وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا..." [الأعراف: 155]  - نرى الإنسان الذي يختار الغرق في ظلمته بدلاً من التصالح مع عالم لم يعد يفهمه. هذا التناقض المأساوي هو ما يمنح الرواية خلودها

إرسال تعليق

0 تعليقات