عبث الأقدار لنجيب محفوظ: البداية التاريخية لسيد الرواية العربية
باكورة أدبية في ثوب فرعوني
"عبث الأقدار" (1939) ليست مجرد أول رواية لنجيب محفوظ، بل هي حجر الأساس الذي وضع عليه صرح الرواية العربية الحديثة. كتبها محفوظ شاباً في الثامنة والعشرين، متأثراً بأستاذه سلامة موسى الذي شجعه على استلهام التاريخ الفرعوني، حيث خطط محفوظ في البداية لكتابة أربعين رواية تاريخية على غرار والتر سكوت، لم يكتمل منها سوى ثلاث: "عبث الأقدار"، "رادوبيس"، و"كفاح طيبة" . نشرتها "المجلة الجديدة" لسلامة موسى الذي رفض العنوان الأصلي "خوفو" بحجة عدم جاذبيته للقارئ، واختار بدلاً منه "عبث الأقدار" . في مفارقة تاريخية، تلقت هذه البداية المتواضعة - التي دفع أجرها لمحفوظ 500 نسخة ورقية بدلاً من المال - فيما بعد أرفع تقدير أدبي عالمي.
الخلفية التاريخية: مصر القديمة كمسرح للصراع الإنساني
تدور الأحداث في عصر الملك خوفو (حوالي 2589-2566 ق.م)، باني الهرم الأكبر في الجيزة، حيث يستحضر محفوظ مدينة "منف" العاصمة القديمة بأسوارها البيضاء وقصورها الفخمة كمسرح للأحداث . تمتزج الرواية بين التاريخ والأسطورة؛ فبينما يستند محفوظ إلى الحقبة التاريخية الحقيقية، ينسج نبوءة خيالية تدفع بالحبكة إلى الأمام. يصور محفوظ المجتمع الفرعوني بطبقاته المتعددة:
البلاط الملكي: مركز السلطة المطلقة حيث يتحكم الفرعون في حياة الآلاف بجرة قلم
الكهنة: ممثلين في الكاهن الأكبر لمعبد رع وأسرته
الجنود والبناءون: كبيشاور المشرف على بناء الهرم
العبيد والخدم: مثل الجارية زايا التي تلعب دوراً محورياً
يبرع محفوظ في تصوير التناقض بين عظمة الأهرامات كرمز للحضارة، وقسوة النظام الاجتماعي الذي بنى هذه المعجزات على أكتاف العبيد .
الحبكة: صراع القدر والإرادة
تبدأ الرواية بمشهد درامي في قصر خوفو، حيث يستدعي الساحر ديدي الذي ينبئه بنبوءة مروعة: "لن يجلس على عرش مصر أحد من ذريتك، بل سيحكمها طفل وُلد اليوم لكاهن الإله رع" . يتحول خوفو من ملك متسامح إلى طاغية يقرر قتل الطفل بيده. تتصاعد الأحداث عبر محطات رئيسية:
مطاردة القدر: يهرب الكاهن وزوجته وابنه الرضيع مع الجارية زايا، لكن الحملة العسكرية بقيادة خوفو تطاردهم. يُقتل الكاهن، ويظن خوفو أنه قتل الطفل بعد أن ذبح طفلاً آخر وُلد في نفس اليوم .
النجاة والتربية: تهرب زايا بالطفل الحقيقي (ددف رع) بعد مواجهة لصوص في الصحراء. تتزوج من بيشاور (مهندس بناء الهرم) بعد موت زوجها، فيتربى ددف رع مع أبنائه .
الصعود غير المتوقع: ينضم ددف رع للجيش، يصبح قائداً لحرس ولي العهد، ثم يقود حملة عسكرية ناجحة إلى سيناء حيث يلتقي بأمه الحقيقية ويعرف حقيقة نسبه .
المفارقة القدرية: عند عودته، يكتشف مؤامرة لقتل خوفو يدبرها ولي العهد نفسه، فينقذ الملك ويقتل الأمير الخائن. في النهاية، يكافئ خوفو منقذه بأن يزوجه ابنته الأميرة مري سنخ رع ويتنازل له عن العرش، محققاً النبوءة رغماً عنه .
"رغم محاولات خوفو اليائسة للقضاء على الطفل، إلا أن الأقدار تأخذ مسارًا مفاجئًا ومثيراً للجدل" .
التحليل الموضوعي: فلسفة القدر وسياسة القوة
1. الصراع الوجودي بين الإرادة والقدر
يقدم محفوظ عبر خوفو نموذجاً للإنسان الذي يرفض الخضوع للقدر: "تحديت إرادة الآلهة، فجردت جيشاً صغيراً سرت على رأسه بنفسي لقتال طفل رضيع" . لكن الرواية تثبت أن مقاومة القدر عبث: كل فعل يقوم به خوفو لتفادي النبوءة يقربه منها أكثر. يصل محفوظ إلى قمة التهكم عندما يجعل خوفو نفسه هو من يمنح العرش لعدوه .
2. نقد الاستبداد السياسي
يتحول خوفو إلى رمز للطغاة الذين يضحّون بالأبرياء لحماية سلطتهم. مشهد ذبح الأطفال بدعوى الحفاظ على العرش يذكر بمذابح تاريخية من هيرودس إلى العصر الحديث. يعلق محمود أمين العالم: "الرواية تدين سياسة الاستبداد والقوة وتسخر منها" .
3. الطبقات الاجتماعية والعدالة
يصور محفوظ معاناة العمال في بناء الهرم، حيث يموت زوج زايا أثناء العمل، بينما يعيش النبلاء في ترف. يشير إلى أن الظلم يخلق مقاومة خفية: خادمة القصر تخبر خوفو بالنبوءة انتقاماً من ظلم الكهنة .
4. المرأة كحاضنة للقيم
تظهر زايا كبطلة خفية تنقذ الطفل وتربيه بتفانٍ، بينما تظهر الأميرة مري سنخ رع كصوت للعاطفة الإنسانية في عالم البلاط القاسي. يقول محفوظ على لسان أحد الشخصيات: "امرأة بلا أمومة كخمر بلا نشوة، أو وردة بلا رائحة" .
البنية الفنية والأسلوب: من التاريخي إلى الفلسفي
الراوي العليم: يسرد الأحداث بموضوعية، مفسراً دواخل الشخصيات مثلما في وصفه: "ساد الصمت لحظة لما شاع في الجو من نغم موسيقى الحرس الفرعوني" .
اللغة الفصحى: تستخدم بجزالة مع مفردات فرعونية مثل "مري سنخ رع" و"بيشاور"، دون انزلاق إلى العامية .
الحوار الدرامي: يحمل دلالات فلسفية، كحوار خوفو مع وزيره عن طبيعة الحكم.
الاستعارة الرمزية: يمثل الهرم سجن السلطة الذي يبني فيه الطاغية قبره بنفسه.
وصف الزمن العميق: "إن الزمان يتقدم غير ملتفت إلى الوراء، وينزل -كلما تقدم- قضاءه بالخلائق" .
تمتاز الرواية بإيقاع سريع، حيث تنتهي في 215 صفحة فقط في طبعاتها الأصلية .
الجدل حول العنوان: من "عبث" إلى "عجائب"
أثارت طبعة 1989 بعنوان "عجائب الأقدار" لغطاً واسعاً، إذ اتهم البعض دار الشروق بتغيير العنوان بدافع ديني. الحقيقة أن التغيير تم بموافقة محفوظ لتيسير الرواية للناشئة، مع إضافة رسومات لحلمي التوني. في بيان رسمي أوضحت الدار:
"نقدم لقرائنا من الفتيان الطبعة الثانية المنقحة من رائعة أديبنا العالمي «عبث الأقدار» بعد تغيير عنوانها إلى «عجائب الأقدار» بإذن خاص من المؤلف" .
هذا الجدل يتكرر عند تحويل الرواية لمسلسل تلفزيوني عام 2000 بعنوان "الأقدار" (حذف كلمة "عبث") لتجنب الاحتجاجات الدينية . يذكر أن الترجمات الأجنبية استخدمت العناوين التي أرادها محفوظ أصلاً: "Khufu’s Wisdom" (حكمة خوفو) بالإنجليزية، و"Cheops" بالألمانية .
مكانة الرواية في مسيرة محفوظ والأدب العربي
رغم أنها البداية، تحمل "عبث الأقدار" بذور عبقريته اللاحقة:
الانتقال من التاريخي إلى الواقعي: بعد ثلاثيته الفرعونية، تحول محفوظ لروايات الواقع المعاصر مثل "القاهرة الجديدة" و"الثلاثية".
تأسيس الرواية التاريخية العربية: حيث سبقت أعمالاً مثل "سمراء دنشواي" لنجيب الكيلاني .
البناء المسبق لمواضيع الثلاثية: الصراع الأبوي في "خوفو" يسبق صراع السيد أحمد عبد الجواد مع أبنائه.
نقدياً، رأى جابر عصفور أنها "البداية الحقيقية للرواية التاريخية القومية" ، بينما حلل محمود أمين العالم استمرارية خط الاستبداد من خوفو إلى شخصيات مثل علاء الدين في "اللص والكلاب" .
عبث الإنسان وحكمة القدر
"عبث الأقدار" ليست مجرد قصة فرعونية، بل هي تأمل فلسفي في العلاقة بين القوة والمصير. يختم محفوظ بدروس إنسانية خالدة:
القوة المطلقة وهم: حتى الفرعون الأعظم يعجز أمام إرادة القدر.
الظلم يولد مقاومة: اضطهاد خوفو للضعفاء هو ما خلق المنقذ الذي لم يخطط له.
الحكمة الحقيقية: تكمن في تقبل نواميس الكون، كما يتجلى في تحول خوفو المتأخر: "حدث منذ نيف وعشرين عاماً أن أعلنت على الأقدار حرباً شعواء" .
ترجمت الرواية لـ 5 لغات على الأقل (الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الإسبانية) ، وبقيت على قائمة "الكتب التي يجب أن تقرأ" في الأدب العربي. ربما لم تكن الرواية الأكمل فنياً لمحفوظ، لكنها كانت البذرة التي أنبتت شجرة الرواية العربية الوارفة، وشهادة على أن الأقدار قد تبدو عبثاً للإنسان، لكنها تحمل حكمة تفهم متأخراً. كما يقول محفوظ نفسه:
"إن الأقدار تسخر من خططنا وتضحك على محاولاتنا لمواجهتها
0 تعليقات