تحليل "نكون أو لا نكون" لفرج فودة: رؤية تنويرية في مواجهة التطرف
السياق التاريخي والإطار الفكري
ظهر كتاب "نكون أو لا نكون" عام ١٩٩٠ في ذروة الصراع الفكري بين تيارات الإسلام السياسي والدفاع عن الدولة المدنية في مصر. جمع فودة في هذا العمل مجموعة مقالاته الجريئة التي نُشرت في صحف مثل "أكتوبر" و"الأحرار"، والتي هاجم فيها الجمود الفكري ورفض تطبيق الشريعة بمنظورها المتطرف .
يقدم الكتاب رؤية شاملة لفكر فودة الذي يُعد امتدادًا لأعماله السابقة مثل "حوار حول العلمانية" و"الحقيقة الغائبة"، حيث يؤكد أن الإسلام "دين لا دولة"، وأن الخلافة التاريخية كانت "نظامًا قرشيًا عربيًا لا يمثل جوهر الإسلام" .
المحاور الفكرية الرئيسية في الكتاب
١. النقد الجذري لفكرة الدولة الدينية
تفكيك مفهوم الخلافة: يرفض فودة اعتبار الخلافة نظامًا إلهيًا، مؤكدًا أنها بنية سياسية بشرية قائمة على الصراع على السلطة، مستشهدًا بالتنافس بين الصحابة بعد وفاة النبي محمد، مثل صراع علي ومعاوية .
تمييز بين الدين والسياسة: يصرح بأن "الإسلام عبادة وأخلاق، وليس منهج حكم"، وأن محاولة أسلمة الدولة تؤدي إلى تشويه الدين وتحويله إلى أداة قمع .
٢. الدفاع عن العلمانية كضمان للحريات
التعريف الإجرائي: يوضح فودة أن العلمانية "ليست إلحادًا"، بل هي فصل الدين عن الدولة لضمان المساواة بين المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم .
نموذج للتطبيق: يشير إلى نجاح تجارب دول مثل اليابان وتركيا في تبني الحداثة دون التخلي عن الهوية الثقافية .
٣. نقد المؤسسة الدينية وتوظيف الدين سياسيًا
هجوم على الأزهر: ينتقد فودة تناقض الأزهر الذي لم يعترض على مقالاته حين نُشرت في الصحف، لكنه طالب بمصادرة الكتاب عندما جُمعت، مما يكشف عن خضوعه لضغوط سياسية .
فضح "جماعة التكفير": يكشف كيف تستغل الجماعات المتطرفة الدين لتحقيق مكاسب سياسية، كما في بيان جبهة علماء الأزهر (١٩٩٢) الذي كفّره ودعا لقتله .
٤. قضايا إصلاحية شائكة
الحدود الشرعية: يشير إلى استحالة تطبيق حد الزنا في العصر الحديث لصعوبة توفر شروط الشهادة .
زواج المتعة والإماء: يحلل هذه الممارسات كأدوات تاريخية لم تعد متوافقة مع كرامة الإنسان .
الجدل حول الكتاب وتداعيات الاغتيال
مصادرة الكتاب: تقدم الأزهر بطلب مصادرة الكتاب فور صدوره، مما جعله وثيقة نادرة تداولها القراء سرًا .
المناظرة الشهيرة (١٩٩٢): في جلسة علنية بمعرض الكتاب، جادل فودة ضد شيوخ مثل محمد الغزالي ومحمد عمارة، مؤكدًا فشل نموذج الدولة الدينية. بعد أسبوع واحد فقط من هذه المناظرة، تم اغتياله .
تأييد الاغتيال دينيًا: سجل الشيخ الغزالي شهادة في محاكمة قتلة فودة أكد فيها "جواز قتل المرتد"، مما منح الشرعية الدينية للجريمة .
رمزية التكفير الاجتماعي
أهدى فودة الكتاب إلى أصدقاء ابنه "أحمد" الذين رفضوا حضور عيد ميلاده لأن آباءهم وصفوا فودة بـ"الكافر". كتب في الإهداء:
"إليهم حين يكبرون ويدركون أنني دافعت عن مستقبلهم، وأن ما فعلوه كان أقسى من رصاص آبائهم" .هذه الكلمات تجسد الانقسام بين الأجيال وتوظيف الدين كأداة للاستبعاد الاجتماعي.
تحليل بنية الكتاب وأسلوبه
اللغة: اعتمد فودة أسلوبًا مباشرًا يخاطب العامي والمثقف معًا، مستخدمًا الأمثلة التاريخية والسجلات السياسية.
المنهج: جمع بين الجرأة الفكرية والاحتجاج بالتراث الإسلامي نفسه، كما في نقده لفتاوى الشيخ صلاح أبو إسماعيل مستندًا إلى وثائق الأزهر الرسمية .
مقالات بارزة:
"ثلاثية الشيخ صلاح": تفنيد تناقضات دعاة تطبيق الشريعة.
"البرنامج السري للتحالف": كشف تحالفات الإسلاميين مع السلطة.
"فتاوى آخر الزمان": تسليط الضوء على فتاوى التكفير .
الكتاب بعد ثلاثين عامًا من اغتيال مؤلفه
استمرارية الصراع الفكري: ما زالت أفكار الكتاب تُدرس في سياق الربيع العربي وصعود التيارات السلفية .
التناقض في التلقي: بينما يُعتبر فودة "شهيد الكلمة" في الخطاب التنويري، يصوره خصومه كمروج للعلمانية المتطرفة .
التراث المكتوب: أصدر صديقه جمال صلاح الدين كتاب "سنوات مع فرج فودة" (٢٠٢٤) موثقًا تفاصيل اغتياله ومحاكمة القتلة .
هل يجب إعادة قراءة "نكون أو لا نكون" اليوم؟
"إن ما أسجله في هذا الكتاب هو سجل هام للأجيال القادمة، أكثر من أهميته لجيلنا" – فرج فودة .
اليوم، وبعد مرور ٣٣ عامًا على اغتياله، تظل كلماته جرس إنذار ضد "الذهنية المتكلسة الرافضة للمراجعة" . الكتاب ليس مجرد نصوص، بل هو شاهد على معركة التنوير ضد الظلامية التي لا تزال مستمرة
0 تعليقات