من باب العشم

 


 "من باب العشم" ليحيى حقي: تحليل موضوعي وأسلوبي

المؤلف والسياق التاريخي

يُعد يحيى حقي (1905–1992) أحد أعمدة الأدب العربي الحديث، ورائدًا لفن القصة القصيرة في مصر. نشأ في حي السيدة زينب الشعبي بالقاهرة

 وهو ما شكَّل وعيه الاجتماعي والأدبي. جمع بين العمل في السلك الدبلوماسي (مثل سفاراته في جدة وإسطنبول وباريس) والإبداع الأدبي، مما منحه رؤية نقدية فريدة تجاه المجتمع المصري والغربي. 

تميزت كتاباته بـالواقعية والسخرية المريرة، وتأثرت بتجربته في الصعيد أثناء عمله بالنيابة، والتي انعكست في أعمال مثل "قنديل أم هاشم" و"البوسطجي".


نظرة عامة على الكتاب

"من باب العشم" (1987) هو مجموعة مقالات نُشرت في صحف "التعاون" و"المساء" بين ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. ضم الكتاب 304 صفحات من المقالات المتنوعة التي تنتقد بلسان ساخر قضايا مثل:

  • الفقر والتفاوت الطبقي.

  • الأدوار الجندرية والعلاقات الأسرية.

  • الخرافات والتنبؤات المزيفة.

  • التحولات الاجتماعية في القاهرة.

 أبرز مقالات الكتاب:

عنوان المقالالقضية المحورية
لعن الله الفقرتحليل الفقر كآفة تدمر الكرامة الإنسانية.
المسئولية على الستاتنقد إلقاء تبعة الأزمات الأسرية على النساء.
طوف وشوف.. ويا رب ستركسخرية من التناقض بين المظاهر والواقع.
خاتم سليمان بأقل من عشرة دولارات!تفكيك تجارة الخرافات والدجل.
صمّاء تسمع الهمسهجاء للبيروقراطية المصرية.

التحليل الموضوعي للمحتوى

1. النقد الاجتماعي والطبقي

  • الفقر: في مقال "لعن الله الفقر"، يصور حقي الفقر ليس كنقص مادي بل كـمرض وجودي يُفقد الإنسان إنسانيته. يستخدم لغة تهكمية لوصف "عبادة الفقر" التي تكرسها الأخلاق الزائفة.

  • البرجوازية الزائفة: يسخر من الطبقة المتوسطة التي تتباهى بمظاهر الرقي بينما تعيش على الديون، كما في "طوف وشوف.. ويا رب سترك"، حيث يفضح انهيار القيم الأسرية خلف واجهات الرفاهية.

2. المرأة والأسرة

  • الصورة النمطية: يهاجم في "المسئولية على الستات" فكرة تحميل المرأة وحدها مسؤولية فشل الزواج أو انحراف الأبناء، معتبرًا إياها تزييفًا للحقيقة.

  • التحرر المحدود: يشير إلى تناقض مجتمع يمنح المرأة تعليمًا ثم يحبسها في أدوار تقليدية، مؤكدًا أن التغيير يجب أن يبدأ من العقلية الذكورية.

3. الدين والتصوف

  • التديّن الشكلي: ينتقد استغلال الدين لتبرير الكسل والفشل، كما في مقال "خليها علي الله"، الذي يحذر من تحول الإيمان إلى عذر للهروب من المسؤولية.

  • الخرافات: يكشف في "خاتم سليمان بأقل من عشرة دولارات!" تجارة الدجل التي تستغل اليأس البشري، مقارنًا إياها بـأفيون الشعوب.

4. الهوية والوطنية

  • الشرقية الأصيلة: يرفض حقي الانبهار بالغرب، ويرى أن الهوية المصرية قائمة على التوازن بين الأصالة والحداثة، كما في "من ذكريات باريس" حيث يسخر من محاكاة البعض للثقافة الفرنسية دون فهم.

  • ذاكرة المدينة: في مقالات عن القاهرة، يحذر من انهيار التراث العمراني والمعنوي تحت وطأة الحداثة العمياء، داعيًا إلى الحفاظ على "سيرة الزوال" كجزء من الذاكرة الجمعية.


الخصائص الأسلوبية والأدبية

1. السخرية كسلاح

  • السخرية السوداء: يستخدمها لتعرية التناقضات، مثل وصف المنجمين بأنهم "مهندسون روحيون" يبيعون الأوهام.

  • المفارقة: في "تقب.. وتغطس"، يصور البيروقراطي كحارس لباب الجحيم يبتسم وهو يدفع المواطن إلى الغرق.

2. اللغة والأسلوب

  • اللغة الشعبية: يمزج بين الفصحى والعامية المصرية (مثل: "يا أولاد الحلال"، "فلة مشمش لولو") لإضفاء واقعية على الحوار.

  • التكثيف: يقدم الأفكار المعقدة بعبارات موجزة، كوصفه الفقر: "ليس جوعًا في البطن.. بل ثقبًا في الروح".

3. البناء الفني

  • المقال-القصة: يحول المقالات إلى حكايات مصغرة بطلها "الإنسان العادي"، كما في "أم العواجز" التي تسرد معاناة عجوز مع الإهمال الطبي.

  • التفاصيل الحسية: في وصفه لأحياء القاهرة، يستحضر الأصوات (صراخ الباعة) والروائح (عطر الأحباب) لخلق تأثير حيوي.

 خصائص أسلوب يحيى حقي الساخر:

الأداة الساخرةمثال من الكتابالغرض
المبالغة"ثلاث جمعيات .. يا أولاد الحلال"فضح تضخم المؤسسات غير الفعالة.
المفارقة التاريخيةمقارنة "خاتم سليمان" المزيف بأساطير الملكتفكيك الخرافات المعاصرة.
التناقض اللفظي"صمّاء تسمع الهمس"كشف فساد الجهاز الإداري.

السياق التاريخي وأثره في المحتوى

كُتبت مقالات الكتاب في فترة حاسمة من تاريخ مصر (الستينيات–السبعينيات)، حيث:

  • الاشتراكية الناصرية: سخر حقي من تحولها إلى شعارات فارغة، كما في "ثلاث جمعيات .. يا أولاد الحلال"، منتقدًا بيروقراطية المؤسسات الحكومية.

  • الهزيمة والانفتاح: بعد نكسة 1967، رصد مقالاته انهيار الأحلام القومية وانتشار اليأس، لكنه دعا إلى "العشم" (الأمل) كقيمة مقاومة، كما في عنوان الكتاب.


تأثير الكتاب وتقبله النقدي

  • الجمهور: قوبل الكتاب بترحيب النخبة المثقفة، لكن بعض القراء اعتبروا سخرية حقي "قاسية"، خاصة في هجومه على الموروث الديني الشعبي.

  • النقاد: أشادوا بقدرته على تحويل المقال اليومي إلى فن أدبي رفيع، بينما انتقد آخرون إغراقه في التشاؤم.

  • الإرث الثقافي: يُعد الكتاب مرجعًا لفهم تحولات المجتمع المصري في القرن العشرين، خاصةً تشظي الهوية بين الأصالة والحداثة.


 الأهمية الدائمة للكتاب

"من باب العشم" ليس مجرد مجموعة مقالات، بل هو سجل أنثروبولوجي لمصر المعاصرة. يجمع يحيى حقي بين:

  • الرؤية النقدية التي تفكك أمراض المجتمع دون انحياز.

  • العمق الإنساني الذي يتعاطف مع المهمشين (الفقراء، النساء، كبار السن).

  • الابتكار الأسلوبي في صياغة لغة تجمع بين البلاغة والبساطة.

يظل الكتاب مرآة عاكسة لأزمات لا تزال حية: الفقر، التفكك الأسري، واستغلال الدين. رسالته الخالدة هي أن "العشم" ليس تفاؤلًا ساذجًا، بل إيمانًا بإمكانية التغيير حين نواجه الحقائق بقوة وصدق.

"السخرية عند يحيى حقي ليست سكينًا يجرح.. بل مرآة تُري القبح لتصنع الجمال." — ناقد أدبي


إرسال تعليق

0 تعليقات