رحلة الربيع

 


 "رحلة الربيع" لطه حسين

 رحلة في أعماق الذات والآخر

 "رحلة الربيع" (1957) للأديب المصري طه حسين (1889-1973) عملاً استثنائياً في أدب الرحلات العربي، يجمع بين السرد الذاتي العميق والوصف الجغرافي الثري والنقد الحضاري. تقدم الرواية سرداً لرحلتين متباعدتين زمنياً قام بهما الكاتب إلى فرنسا: الأولى في ربيع 1948، والثانية في صيف 1928، تكشفان عن تحولات نفسية وفكرية عميقة عاشها عميد الأدب العربي .

السياق التاريخي والشخصي للرحلتين

  • الرحلة الأولى (ربيع 1948): قام بها طه حسين بمفردته وهو في أوج نضجه الفكري، بعد أن أصبح شخصية أكاديمية مرموقة وعميداً لكلية الآداب. جاءت الرحلة في لحظة سياسية حرجة (قبيل نكبة فلسطين)، وحملت طابعاً تأملياً حزيناً .

  • الرحلة الثانية (صيف 1928): تمت مع عائلته (زوجته سوزان وابنيه أمينة ومؤنس) بعد عودته من الدراسة في فرنسا بسنوات قليلة. تميزت بطابع عائلي مبتهج، وكشفت عن مرحلة شبابه المبكر وتفاعله الأول مع الثقافة الأوروبية .


تحليل رحلة الربيع (1948): ظلال الحرب والوحدة

1. السفينة كفضاء للعزلة والتأمل

تبدأ الرحلة بوصف دقيق لرحلته البحرية من الإسكندرية إلى مارسيليا، حيث تتحول السفينة إلى مسرح لمعاني الاغتراب:

  • الحوارات الوهمية: يخاطب طه حسين صديقاً متخيلاً (أو روح صديق متوفى) يعبر من خلاله عن مخاوفه الوجودية حول الحرب الباردة وصراعات العالم، قائلاً: "كنا نرى الظلام معاً، والآن أراه وحيداً" .

  • وصف الطبيعة المتناقض: يصف البحر المتوسط بأسلوب شاعري ("زرقة تسرق الأبصار") لكنه يقارنه بظلامه الداخلي: "أرى بأذني ما لا تراه عيون المبصرين" .

2. باريس ما بعد الحرب: جراح لا تندمل

يقدم وصفاً لباريس في أعقاب الحرب العالمية الثانية:

  • المتاحف كشاهد على التاريخ: يتأمل لوحات اللوفر التي تمثل الحروب القديمة، قائلاً: "هل تعلمت البشرية الدرس؟"، في إشارة إلى تكرار العنف عبر العصور .

  • مقاهي سان جيرمان: يرصد تحولات المثقفين الفرنسيين نحو الوجودية واليأس، منتقداً انغماسهم في الجدل الفلسفي بينما العالم يعاني .

3. الحنين إلى الماضي

يزور الأماكن التي عاش فيها أثناء دراسته بفرنسا (1914-1919)، مستعيداً ذكريات الصبا:

  • مقهى "دي ماغو": حيث كان يقرأ برايل مع زوجته سوزان، التي كانت "عينيه التي أبصرت به العالم الجديد" .

  • جامعة السوربون: يتذكر معركته لكتابة أطروحة "ابن خلدون" وسط صعوبات مادية واجتماعية .


تحليل رحلة الصيف (1928): الضوء في قلب العائلة

1. فرنسا عبر عيون الأطفال

تركز هذه الرحلة على اكتشاف ابنيه للثقافة الفرنسية:

  • متحف التاريخ الطبيعي: دهشة الأطفال أمام هياكل الديناصورات، ووصف طه حسين لفضولهم: "كانوا يلمسون العظام كما تلمس أيادي المبصرين الأفكار" .

  • ملاهي مونمارتر: المشاهد الشعبية التي تتحول إلى درس في الأنثروبولوجيا، حيث يلاحظ سلوكيات الفرنسيين في الفرح .

2. الطبيعة كرمز للسلام

تمثل جبال الألب وجنوب فرنسا فضاءً للتصالح مع الذات:

  • سانت أوريل: يصف قمم الجبال المكللة بالثلج: "كأنها عرائس تنتظر عشاقها"، في مشهد يوازن بين جمال الطبيعة وهدوء روحه .

  • غابات جيرارمير: التنزه العائلي الذي يتحول إلى حوار عن اختلاف الثقافات، حيث تقارن سوزان بين أشجار الصنوبر الفرنسية ونخيل الصعيد .

3. الصدمة الثقافية الإيجابية

يسجل انبهاره بجوانب من الحضارة الأوروبية:

  • المكتبات العامة: إعجابه بانتشار القراءة بين العمال والفلاحين: "رأيت حصاداً فكرياً يفوق حصاد الأرض" .

  • المسرح الشعبي: حضور عروض "مسرح نكتامبول" المجانية التي تجمع بين الفن والتعليم السياسي للجماهير .


التحليل النفسي والفلسفي للرحلتين

1. ثنائية الظلام والنور

  • الظلام المادي: فقدان البصر في الرابعة من العمر بسبب العلاج الخاطئ في قريته ("الرمد الذي سلبني النور") .

  • النور الروحي: اكتساب البصيرة عبر السفر: "الرحلات تمنحني عيوناً لا تموت"، في إشارة إلى قدرة المعرفة على تجاوز الإعاقة .

2. صراع الهوية

  • نقد الذات العربية: يسخر من تخلف التعليم في الأزهر ("مناهج متحجرة كالمومياوات") مقابل إشادته بجامعات فرنسا .

  • الدفاع عن الخصوصية: يحذر من الذوبان في الغرب: "ليس كل ما يلمع في أوروبا ذهباً، وليس كل ما في تراثنا صدأ" .

3. الحب كجسر بين الثقافات

دور زوجته سوزان يتجاوز القراءة له، إلى كونها مفسرة للعالم:

  • الترجمة الثقافية: شرحها لعادات الفرنسيين السياسية والدينية.

  • التوازن العاطفي: وصفه لحظة صلاة سوزان في كنيسة نوتردام: "رأيت الإيمان الخالص يتجلى في حركاتها" .


الخصائص الفنية والأسلوبية

  1. السرد الذاتي الحواري: يدمج بين السيرة الذاتية وأدب الرحلات عبر حوارات خيالية مع أصدقاء ومفكرين متوفين .

  2. الوصف الحسّي: اعتماده على الصوت واللمس والرائحة لتعويض غياب البصر، كوصف رائحة المطر في باريس: "عبق يختلف عن مطر الصعيد، كأنه مزج بين زيت الزيتون وأوراق الكتب القديمة" .

  3. المقارنة الساخرة: مثل مقارنة شيوخ الأزهر بـ"التماسيح التي تزدرد الناس" في إشارة إلى قمع الفكر .

  4. التكرار الرمزي: تكرار مشهد البحر في الرحلتين كرمز للتغير واللااستقرار.


السياق التاريخي والاجتماعي

  • مصر ما قبل الثورة: يسجل معاناة الفلاحين المصريين خلال الرحلة البحرية: "يرقصون على السفينة كالريش في مهب الريح، لا يعرفون مصيرهم في أرض الغربة" .

  • أوروبا ما بين الحربين: رصد صعود النازية في ألمانيا خلال رحلة 1928: "لم أكن أعلم أن شلالات الراين التي أعشقها ستتحول إلى دم" .


تأثير الرحلة في فكر طه حسين

  1. مشروع التنوير: بعد عودته، قاد حملة لمجانية التعليم ("العلم كالماء والهواء") مستنداً إلى نماذج التعليم الأوروبي .

  2. تأسيس الجامعات: نقل تجربة الجامعات الفرنسية إلى مصر بإنشاء جامعات الإسكندرية وعين شمس .

  3. الكتابة الجريئة: ألهمته الرحلة كتابة "مستقبل الثقافة في مصر" (1938) الذي دعا فيه إلى التوفيق بين الأصالة والمعاصرة .


الجَدَل حول الرؤية النقدية

واجهت الرواية انتقادات حادة بسبب:

  • تمجيد الغرب: اتهامه بـ"الانبهار المفرط" بالحضارة الأوروبية .

  • نقد الأزهر: هجوم شيخ الأزهر عليه: "يعمى عن نور الإسلام ويرى سراب فرنسا" .

  • الدفاع عن الحق: رد في مذكراته: "النقد ليس خيانة، بل هو أشرف أنواع الحب" .


 الرحلة كفعل وجودي

"رحلة الربيع" ليست مجرد يوميات سفر، بل سيرة لتحولات أمة وصراع مثقف بين الموروث والحداثة. عبر 212 صفحة، يقدم طه حسين نموذجاً لأدب الرحلات الفلسفي الذي يجعل من الجغرافيا مرآة للنفس. الرواية توثق لحظة فريدة في التاريخ العربي حيث كان المثقف جسراً بين الشرق والغرب، حاملاً رؤية نقدية لا تلغي الهوية بل تسعى لتجديدها. كما قال في ختام الرحلة: "عدت من فرنسا كمن يغترف من بحر، لكنني لم أنس أنني ابن النيل



أقرأ أيضاَ

ملخصات كل أعمال الاديب والمفكر طة حسين

إرسال تعليق

0 تعليقات