"مصر بين عهدين: ذكريات" لتوفيق الحكيم: رحلة في تشريح الهوية والتحولات المجتمعية
السياق التاريخي والأدبي للكتاب
صدر كتاب "مصر بين عهدين" عام 1983 كشهادة فكرية لتوفيق الحكيم (1898-1987) على تحولات مصر خلال القرن العشرين، لا سيما بين حقبتي الثورة (1952-1970) وعصر السادات (1970-1981). يندرج العمل ضمن الأدب الذاتي التحليلي الذي يمزج السيرة الشخصية بالنقد المجتمعي، حيث يستحضر الحكيم تجاربه منذ إقامته في باريس في عشرينيات القرن الماضي حتى مشاهداته لتحولات مصر السياسية والثقافية . يهدف الكتاب إلى الإجابة عن سؤال مركزي شغل الحكيم طوال حياته: "ما هي روح مصر؟ وكيف تستعيد وعيها بهويتها؟" – سؤالٌ طرحه أولاً في روايته الشهيرة "عودة الروح" (1926) وعاد إليه هنا بمنظور نقدي أعمق .
المحاور الرئيسية للكتاب
1. الرؤية الذاتية: المسافة كعدسة لفهم الوطن
الاغتراب كأداة تحليل: يصف الحكيم إقامته في باريس (1925-1928) كفترة محورية شكلت وعيه النقدي. هناك، اكتشف أن البعد الجغرافي يمنح وضوح الرؤية لمصر، مستخدماً استعارة مؤثرة: "كما أن اللوحة المعلقة على الحائط لا يمكن تمييز ملامحها وأنت ملتصق بها... يجب الابتعاد عنها خطوتين لتراها في شمولها" .
صدمة العودة: عند عودته عام 1928، لاحظ تناقضاً صارخاً بين الحضارة الأوروبية المنظمة والفوضى الاجتماعية في مصر، خاصة في تعامل المصريين مع الوقت والمكان العام. يروي كيف كان مشهد ازدحام الترام دون نظام أو احترام للخصوصية رمزاً لـ"غياب الروح الجماعية المنظمة" .
2. تشريح المجتمع المصري: رواسب التاريخ وتحديات الحداثة
الهوية المصرية المتفردة: يؤكد الحكيم أن مصر ليست امتداداً للهوية العربية، بل كياناً مستقلاً نشأ من تراكم حضاري فرعوني-يوناني-قبطي-إسلامي. يشير إلى أن العقلية المصرية تتسم بـالاعتدال والروح العملية، على عكس "النزعة الصحراوية" العربية التي يراها مندفعة ومتطرفة .
النقد الاجتماعي اللاذع:
الانحطاط الأخلاقي: يسخر من ازدواجية التعامل مع المرأة، فيذكر حادثة استنكار ركوب زوجين معاً في عربة حنطور: "الشارع كله يجري خلفهما متصايحاً بألفاظ بذيئة وكأنها جريمة!" .
القمع الفكري: يحذر من تحول مصر إلى مجتمع "شكوكي" (نسبة لمحمود شكوكو) تكثر فيه المحظورات: "عندما تأخذ الحضارات في الانحطاط، تكثر البراقع... حتى تمتد إلى روح المعرفة فتصيبها بالشلل" .
3. التعليم: التلقين vs. التنوير
نقد مجانية التعليم: يهاجم الحكيم سياسة التعليم المجاني التي أدت لـازدحام المدارس دون جودة، محولاً التعليم إلى "شهادة للحصول على وظيفة" بدلاً من أداة لتكوين الشخصية .
الأمية العقلية: يشير إلى أن محو الأمية الأبجدية دون محو "الأمية العقلية" ينتج موظفين لا ينتجون فكراً، قائلاً: "ما قيمة معرفة القراءة إذا ظل العقل أسير التلقين؟" .
4. التحولات السياسية: بين ناصر والسادات
حقبة عبد الناصر: رغم إشادته بـاستعادة الكرامة الوطنية بعد العدوان الثلاثي، ينتقد تحول الثورة إلى نظام شمولي "أطفأ شمعة لإشعال شمعة"، مشيراً إلى قمع الحريات وتكريس التخلف عبر إقصاء التعددية .
عهد السادات: يرحب بخطوات السلام لكنه يرفض المصالحة مع التطرف الديني، معتبراً أنها أعادت "رواسب الماضي" مثل الحجاب الفكري والانغلاق .
المنهجية والأسلوب الأدبي
السرد الانطباعي: يعتمد الكتاب على خواطر غير مرتبة زمنياً، يجمعها الحكيم تحت عنوان "مشاهد وفصول ذاتية"، مما يعكس طبيعة الذاكرة البشرية .
الجمع بين الرمزية والواقعية: كاتب "المسرح الذهني" يوظف هنا الاستعارات الفلسفية (كاستعارة اللوحة) لتحليل الواقع، ويمزجها بتفاصيل يومية دقيقة (مثل مشهد الترام) .
النبرة الساخرة الحزينة: تهيمن على الكتاب نبرةٌ تجمع بين سخرية من تناقضات المجتمع وألم على "روح مصر المفقودة"، خاصة عند مقارنة حاضر مصر بماضيها الحضاري .
التقييم النقدي وأهمية الكتاب
إشكالية العنوان: بعض القراء اعترضوا على عدم تطابق العنوان مع المضمون، حيث يركز الكتاب على رحلة الحكيم الذاتية أكثر من التحليل السياسي للعهدين .
اتهامات بالنفاق: ينتقد بعض القراء تناقض مواقف الحكيم، خاصة مديحه لعبد الناصر رغم معارضته للديكتاتورية، مما يعكس إشكالية المثقف في مواجهة السلطة .
الراهنية المطلقة: رغم كتابته قبل أربعة عقود، تظل تحليلات الحكيم حول الهوية والتعليم والتحرر الفكري صالحة لنقد الواقع العربي اليوم، خاصة مقولته: "التخلف الحقيقي هو تخلف المائدة عن عرض الألوان المختلفة" .
الخاتمة: الكتاب كمرآة للأمة
"مصر بين عهدين" ليس سيرة ذاتية تقليدية، بل وصية فكرية من أحد عمالقة الأدب العربي. عبر شهادته على قرن من التحولات، يقدم الحكيم مفتاحاً لفهم "روح مصر": قدرتها على البقاء رغم الانحطاط، واستعدادها للصحوة إذا تحررت من رواسب التخلف. الكتاب يدعو القارئ لا لتأمل ماضي مصر، بل لمواجهة سؤال مصيري: كيف نبنى حاضراً لا ينكر تراثه ولا يستسلم لأوهام الماضي؟
مقولة توفيق الحكيم الخالدة:
"إن رواسبنا في مصر من قديم جئنا بها... فهل نستيقظ يوماً فننفض عنها غبار الزمن؟
0 تعليقات