"من هناك (قصص مترجمة)" لطه حسين
🟢 تعريف بالكتاب وسياقه العام
ايضا يعد "من هناك" أحد أبرز أعمال الدكتور طه حسين في مجال الترجمة الأدبية، حيث يجمع بين اختياراته الدقيقة للقصص القصيرة من الأدب الفرنسي وبين قدرته الفريدة على تقديمها بلغة عربية فنية راقية. صدر الكتاب في سياقٍ كانت فيه الثقافة العربية تعيش مرحلة التحديث والتجديد والانفتاح على الغرب، وقد لعبت الترجمة دورًا مهمًا في نقل المفاهيم والأشكال الفنية الحديثة.
عنوان الكتاب نفسه – "من هناك" – يوحي بالقصدية: أنه يأتي "من هناك" أي من العالم الآخر، الغربي، الذي أراد طه حسين أن يعرّف القارئ العربي عليه لا كغريب أو دخيل، بل كمصدر إلهام وجمال وتجربة إنسانية مشتركة.
ثانيًا: محتوى الكتاب وأبرز القصص
يتضمن الكتاب مجموعة من القصص القصيرة المترجمة عن الفرنسية، كتبها نخبة من أعلام الأدب الفرنسي أمثال:
-
غي دي موباسان (Maupassant)
-
ألفونس دوديه (Daudet)
-
أناتول فرانس (Anatole France)
-
أندريه جيد (Gide)
وقد اختار طه حسين هذه القصص بعناية، وحرص أن تمثل أنماطًا مختلفة من التجربة الأدبية الفرنسية، مثل الواقعية، الرمزية، النفسية، والفلسفية. لا يتجاوز طول معظم القصص بضع صفحات، لكنها مشحونة بدلالات إنسانية وفكرية.
ثالثًا: تحليل السمات الفنية للكتاب
1. الترجمة كأسلوب أدبي
طه حسين لم يكتفِ بترجمة القصص نقلاً عن اللغة الفرنسية إلى العربية، بل حرص على:
-
إعادة خلق النص ليحمل روحًا عربية دون أن يفقد أصالته الفرنسية.
-
استعمال لغة عربية جزلة وجميلة دون تكلف أو تقعر.
-
الحفاظ على الطابع الفني والتكثيفي الذي يميز القصة الفرنسية.
في هذا، جمع طه حسين بين مهمتي "الناقل الأمين" و"الكاتب المبدع"، ما جعل الكتاب ليس فقط نافذة على الأدب الغربي، بل قطعة فنية قائمة بذاتها.
2. التركيز على الإنسان
في جميع القصص التي ترجمها طه حسين في هذا الكتاب، يظهر الإنسان بوصفه محور السرد: هواجسه، مشاعره، عذاباته، رغبته في الخلاص أو فهم الحياة. ويُجسّد كل كاتب من الكُتّاب المختارين جانبًا من هذه التجربة:
-
موباسان يصف العلاقات المشوّشة بين الرجل والمرأة.
-
دوديه يصور الفقر والبؤس بمرارة وإنسانية.
-
أناتول فرانس يسلط الضوء على المفارقات الأخلاقية والسياسية.
-
أندريه جيد يعالج التمزق النفسي والبحث عن الذات.
3. التنوع الأسلوبي
ما يميز "من هناك" هو التنوع في أساليب القصص:
-
بعضها واقعي تمامًا، يصور حادثة بسيطة في سوق أو محطة قطار.
-
وبعضها رمزي، فيه إسقاط على القيم الكبرى مثل الموت والحرية.
-
وبعضها تحليل نفسي دقيق لصراعات داخلية يعيشها الإنسان المعاصر.
وهذا التنوع يعطي الكتاب ثراءً يجعل القارئ يختبر أنماطًا سردية متعددة، ويكتشف كيف يمكن للحكاية القصيرة أن تكون مفعمة بالمعنى دون حاجة إلى الإطالة.
رابعًا: أبرز الموضوعات في الكتاب
1. الحب كقوة مشوشة
في أكثر من قصة، يتناول طه حسين موضوع الحب كما عبّر عنه الكُتّاب الفرنسيون: لا كحالة رومانسية تقليدية، بل كقوة معقدة تحمل في داخلها الألم والضعف والخديعة أحيانًا. الشخصيات المحبة في هذه القصص لا تعيش سعادة خالصة، بل كثيرًا ما تواجه خيبة أو مفارقة أو خيانة.
2. الفقر والكرامة
ثيمة متكررة في القصص هي معاناة الطبقات الدنيا، خصوصًا في باريس أواخر القرن التاسع عشر. لكن هذه المعاناة لا تُعرض بوصفها مادة للشفقة، بل كأرضية للتأمل في معنى الكرامة، والنزاهة، والحياة الكريمة.
في إحدى القصص، ترفض أرملة فقيرة أن تقبل صدقة من أحد، رغم أنها لا تملك ما تسدّ به رمق أطفالها، لأن الكرامة بالنسبة لها أهم من الجوع.
3. السلطة والتمرد
في بعض القصص، ثمة شخصيات تتمرد على السلطة: الأب، أو المؤسسة، أو المجتمع. يُظهر طه حسين – من خلال النصوص الأصلية – كيف أن الفرد في الثقافة الغربية بدأ يتساءل عن كل سلطة، ويريد أن يعي ذاته خارج التقاليد.
خامسًا: القيمة الفكرية للكتاب
1. زرع الوعي الجمالي الحديث
طه حسين من خلال هذا الكتاب، أراد أن يُعوّد القارئ العربي على نوع جديد من الجمال الفني. القصة القصيرة الغربية ليست واعظة، ولا خطيبًا، بل مرآة تُظهر المشهد الإنساني بكل تناقضاته.
2. فتح باب النقد الحداثي
إن ترجمة هذا النوع من الأدب تُمهّد لتأسيس حس نقدي مختلف، إذ يتعامل القارئ مع النص لا من خلال العظة أو الحكمة، بل من خلال التأويل، والتفكيك، والربط بالذات والتجربة.
3. الحوار الثقافي
طه حسين كان يُؤمن بأن التفاعل مع الأدب الغربي ضروري لتطور الأدب العربي، وقد سعى من خلال هذه القصص إلى:
-
إظهار غنى التجربة الأدبية الفرنسية.
-
تقديم النموذج الغربي لا للاتباع الأعمى، بل للاستلهام الواعي.
-
تدريب الذائقة العربية على الانفتاح والمقارنة والنقد.
سادسًا: لغة الترجمة وتحدياتها
يتميّز أسلوب طه حسين في الترجمة بأنه:
-
أنيق وموزون، يختار مفرداته بعناية.
-
يُقرّب المعاني دون أن يُبسطها بشكل مُخلّ.
-
يحافظ على النغمة النفسية للنص الفرنسي.
لكنه واجه عدة تحديات:
-
نقل المشاعر الدقيقة من لغة تحمل مفردات نفسية وفلسفية كثيفة.
-
إعادة إنتاج الأسلوب الفرنسي المنساب في قالب عربي دون تكلّف.
-
التعامل مع التلميحات الثقافية التي قد لا تكون مألوفة للقارئ العربي، ما قد يخلق فجوة تأويلية.
رغم هذه التحديات، نجح طه حسين في خلق نص عربي يحمل مذاق النص الفرنسي وروحه، دون أن يبدو مُتكلّفًا أو مصطنعًا.
سابعًا: الأثر على الأدب العربي
هذا الكتاب، رغم أنه "ترجمة"، إلا أنه أثّر بشكل مباشر وغير مباشر في:
-
تطوير شكل القصة القصيرة العربية.
-
تعزيز مكانة الترجمة الأدبية في مشروع النهضة.
-
تشجيع كتّاب عرب على التجريب في الأسلوب والبناء القصصي، كما فعل يوسف إدريس وإدريس الشرايبي وزكريا تامر لاحقًا.
"من هناك"... إلى هنا
في النهاية، لا يُعدّ "من هناك" كتابًا مترجمًا بالمعنى التقليدي، بل هو مشروع ثقافي متكامل، يعكس رؤية طه حسين التنويرية، وإيمانه العميق بأن الأدب جسر بين الشعوب، وأن الترجمة ليست نقلًا فقط بل إبداع جديد.
طه حسين لم يُرد فقط أن يخبرنا كيف يكتب الفرنسيون، بل أراد أن يُعلّمنا كيف نقرأ، وكيف نعيد تشكيل نظرتنا للعالم من خلال فنّ القصّة.
أقرأ أيضاَ
0 تعليقات