"أوديب وثيسيوس" لطه حسين
بين طه حسين والأسطورة
كان الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، مؤمنًا إيمانًا عميقًا بأن للأدب وظيفة ثقافية وحضارية، لا تقل أهمية عن دوره الجمالي. في كتابه "أوديب وثيسيوس: من أبطال الأساطير اليونانية"، لا يكتفي طه حسين بأن يقدم لنا حكايات أسطورية من التراث اليوناني، بل يُعيد سردها بوعي حضاري، ليُحفّز القارئ العربي على التأمل في التراث الإنساني، وفي المآسي والأخلاق والأسئلة الوجودية التي طرحتها الحضارات القديمة، والتي لا تزال حاضرة في حياتنا المعاصرة.
الكتاب يُعد جزءًا من مشروع طه حسين التنويري، وهو موجّه في الأساس للنشء والشباب، لكنه يحمل بين سطوره رؤى تربوية وفكرية وإنسانية تصلح لكل الأعمار، وتمتد لتخاطب العقل العربي الباحث عن المعنى في الماضي والحاضر.
أولًا: مضمون الكتاب — أوديب وثيسيوس كرمزين رمزيين
أوديب: الإنسان في مواجهة القدر
تحكي قصة أوديب عن نبوءة فاجعة تُطارد بطلها منذ ولادته: يُقال إنه سيقتل أباه ويتزوج أمه. في محاولة لتجنّب المصير، يُتخذ قرارٌ بالتخلّي عن الطفل، لكن المفارقة أن محاولات الهرب من القدر تقود إلى تحقيقه بالكامل.
أوديب يقتل أباه دون أن يعرفه، ويتزوج أمه دون أن يعلم. حين يكتشف الحقيقة، يفقأ عينيه بنفسه، جزاءً على الجريمة التي لم يرتكبها بوعي.
من خلال هذه القصة، يعرض طه حسين مأساة الإنسان الذي يعيش صراعًا بين الحرية والقدر، بين العقل والمصير، ويُقدّم أوديب نموذجًا للبطولة التراجيدية التي لا تنبع من القوة الجسدية، بل من الشجاعة الأخلاقية للاعتراف بالخطأ ومواجهة الذات.
ثيسيوس: البطل الذي يقهر الوحوش ويفتح المدن
أما في قصة ثيسيوس، فنلتقي ببطل مختلف في ملامحه ومصيره. ثيسيوس هو ابن الملك إيجيوس، وينشأ بعيدًا عن والده، ثم يعود إلى أثينا بعد سلسلة من المغامرات التي تنم عن شجاعته.
أهم مغامراته تتمثل في قتاله مع مينوتور، الوحش الأسطوري الذي يعيش في متاهة كريت، والذي كان يُفتك بالشباب والشابات من أثينا. لكن بثيسيوس لا يُقاتل فقط الوحوش، بل يواجه نظمًا سياسية فاسدة، ويُسهم في إرساء أسس جديدة للدولة.
يُقدّمه طه حسين كبطل مدني-سياسي، يمثل الإرادة الجماعية، والقدرة على تحويل الأسطورة إلى مشروع اجتماعي وتنظيمي.
ثانيًا: الرؤية الفكرية لطه حسين
1. الأسطورة بوصفها مرآة للوعي الإنساني
طه حسين لا يعرض الأسطورة كقصة خرافية أو فلكلورية، بل بوصفها نصًّا رمزيًّا يتضمن تأملات في الوجود والمصير والسلطة. من خلال أوديب، يطرح السؤال: هل نحن أحرار أم مقيدون بمشيئة لا نعلمها؟ ومن خلال ثيسيوس، يعرض تطور المدينة والسياسة من العشوائية إلى التنظيم، ومن الاستبداد إلى المشاركة.
2. الوظيفة التربوية للأدب
الكتاب موجه للنشء، لكن طه حسين يُقدّمه بلغة سلسة لا تُسطّح المعاني. يعتقد أن تعريف الأجيال الجديدة بالتراث الإنساني، بما فيه من خير وشر، ظلم وعدالة، يُساعد في تكوين ضمير إنساني وأخلاقي متين.
3. المقارنة الحضارية الضمنية
طه حسين لا يُقارن صراحةً بين الأسطورة اليونانية والتراث العربي، لكنه يُلمح في أكثر من موضع إلى أهمية النظر إلى العقل الأسطوري اليوناني بوصفه منبعًا لأسئلة الفلسفة والدراما. وكأنّ في إعادة سرد هذه الحكايات دعوة ضمنية للعقل العربي ليعيد التفكير في موروثه ويبحث عن لحظة تأسيس مشابهة.
ثالثًا: البناء الفني للكتاب
1. لغة السرد
طه حسين يستخدم لغة عربية جزلة وسهلة في الوقت نفسه. تجنّب الاصطلاحات المعقدة، وحرص على إبراز الدراما والمأساة والتشويق. السرد يمتاز بلمسة شعرية، ويتضمن وقفات للتأمل وطرح الأسئلة.
2. البناء الدرامي
الكتاب مبني على أسس درامية متينة، تظهر خاصة في قصة أوديب، حيث يتصاعد التوتر تدريجيًا حتى يبلغ ذروته في لحظة اكتشاف الحقيقة. أما ثيسيوس، فيقدمه طه حسين كسلسلة من المغامرات التي تُشكّل شخصية البطل وتبني مساره البطولي.
3. الحوار والمونولوج الداخلي
في بعض المقاطع، يُدخل طه حسين الحوار الداخلي، أو يعرض تساؤلات أبطال القصة بصوتهم، ما يُضفي عمقًا نفسيًا وإنسانيًا على السرد.
رابعًا: مضامين فلسفية وإنسانية في الكتاب
المصير والحرية
قصة أوديب تعكس هشاشة الإنسان أمام قوى خارجة عن إرادته. لكن في لحظة ما، حين يختار أن يفقأ عينيه، نراه يتحول من ضحية إلى فاعل، ويستعيد كامل مسؤوليته الأخلاقية.
الشجاعة في مواجهة الذات
طه حسين يُبرز أوديب كثورة داخلية، لا كضحية فقط. البطل لا يهرب، بل يختار أن يتحمل مسؤولية فعله، حتى لو كان بلا وعي، وهي لحظة ارتقاء إنساني راقٍ.
العدالة السياسية والاجتماعية
في قصة ثيسيوس، يركز الكاتب على ضرورة التحول من الفوضى إلى التنظيم، ومن الطغيان إلى العدل. يرى أن البطل الحقيقي ليس من يقتل الوحوش فقط، بل من يؤسس للمدينة، للعدالة، للمواطنة.
خامسًا: أثر الكتاب على القارئ العربي
-
التعرف على التراث الإنساني بشكل مبسط وعميق في آن واحد.
-
تنمية الحس الأخلاقي والفكري من خلال قصص مليئة بالتحديات والصراعات الإنسانية.
-
إعادة الاعتبار للأسطورة كأداة تربوية وثقافية، بعد أن كانت مهملة أو محصورة في الخيال الشعبي.
سادسًا: من الأسطورة إلى النهضة
كتاب "أوديب وثيسيوس" ليس مجرد سرد لقصتين أسطوريتين، بل هو مشروع تربوي وفكري كامل. أراد طه حسين من خلاله أن يُعلّم القارئ العربي كيف يسائل مصيره، وكيف يُدرك أن البطولة الحقيقية ليست في القوة، بل في الوعي والمسؤولية.
في أوديب، نقرأ مأساتنا الوجودية. وفي ثيسيوس، نرى أحلامنا في التغيير والعدل. كلاهما لا يزالان معنا، لا في كتب التاريخ فقط، بل في قلقنا وأسئلتنا وأحلامنا.
وهكذا، يعبر طه حسين بنا من أرض الأسطورة إلى عالم الإنسان: المجبول بالخوف، بالأمل، وبالسعي الدائم نحو الحقيقة.
أقرأ أيضاَ
0 تعليقات