"السياسة" لأرسطو
أسس الفكر السياسي الغربي
السياق التاريخي والأهمية الفلسفية
يُعد كتاب "السياسة" (Πολιτικά) لأرسطو (384-322 ق.م) حجر الزاوية في الفلسفة السياسية الغربية. كُتب كامتداد لـ "الأخلاق النيقوماخية"، حيث يربط أرسطو بين الفضيلة الفردية والسعادة الجماعية، معتبرًا أن الدولة هي أعلى شكل من أشكال التنظيم البشري لتحقيق "الحياة الطيبة" (εὐδαιμονία) . استند أرسطو في تحليله إلى دراسة 158 دستورًا يونانيًا وعالميًا، مما جعل منهجه تجريبيًا مقارنًا، على عكس نظرية المدينة المثالية لدى أفلاطون .
الكتاب الأول: الإنسان كائن سياسي وطبيعة الدولة
1. الطبيعة الاجتماعية للإنسان
يُفتتح الكتاب بالجملة الشهيرة: "الإنسان حيوان سياسي بالطبع" (ζῷον πολιτικόν). يبرر أرسطو ذلك بقدرة البشر على الكلام (λόγος) والتمييز بين الخير والشر، والعدل والظلم، مما يمكنهم من بناء مجتمعات أخلاقية. بينما تعيش النحل في خلايا، لا يكتفي البشر بالعيش معًا بل يناقشون كيفية تنظيم مجتمعاتهم .
2. تطور المجتمع البشري
يرسم أرسطو تطور المجتمعات عبر ثلاث مراحل:
الأسرة (οἶκος): الوحدة الأساسية لسد الحاجات اليومية.
القرية (κώμη): اتحاد عائلات لتحقيق الاكتفاء الجزئي.
الدولة-المدينة (πόλις): اتحاد قرى لتحقيق الاكتفاء الذاتي (αὐτάρκεια) والسعي نحو الحياة الفضلى .
3. العبودية والاقتصاد
العبودية الطبيعية: يدافع أرسطو عن فكرة أن بعض البشر "عبيد بالطبيعة" لأنهم يملكون أجسادًا قوية وعقولًا ضعيفة، وأن استعبادهم مفيد لهم وللمجتمع. لكنه يشترط أن يكون الاستعباد مفيدًا للعبد، ويدين استعباد الأسرى بالحرب ظلمًا .
نقد التراكم النقدي: يميز بين "الاقتصاد الطبيعي" (إدارة المنزل لسد الحاجات) و"التراكم النقدي" (التجارة لجمع المال). يرفض الأخير لأنه لا حد له ويفسد الأخلاق. هذا النقد أثر لاحقًا في أفكار كارل ماركس .
الكتاب الثاني: نقد النماذج السياسية السابقة
يحلل أرسطو نماذج مثالية وواقعية:
نقد جمهورية أفلاطون: يرفض فكرة الملكية المشتركة للنساء والأطفال، معتبرًا أنها تدمر الروابط العائلية وتزيد الصراعات .
تحليل دساتير واقعية: يمدح أسبرطة لنظامها التعليمي، وقرطاج لتوازن سلطاتها، لكنه ينتقدها لتركيزها على الحرب دون الفضيلة .
الكتاب الثالث: جوهر المواطنية والدستور
1. تعريف المواطن
المواطن هو "من يشارك في السلطة القضائية والتشريعية". يستبعد أرسطو:
العبيد والنساء والأجانب.
العمال اليدويين (βαναυσοί) لانشغالهم بالعمل وعدم توفر وقت للفضيلة .
2. تصنيف الدساتير
عدد الحكام | نظام صالح | نظام فاسد |
---|---|---|
واحد | الملكية (βασιλεία) | الطغيان (τύραννος) |
قلة | الأرستقراطية (ἀριστοκρατία) | الأوليغارشية (ὀλιγαρχία) |
كثرة | الجمهورية (πολιτεία) | الديمقراطية (δημοκρατία) |
الجمهورية (Polity): نظام مختلط يجمع عناصر ديمقراطية (مشاركة الشعب) وأوليغارشية (دور النخبة)، وهو الأفضل عمليًا .
الكتاب الرابع والخامس: استقرار الدول والثورات
1. عوامل استقرار الأنظمة
الطبقة الوسطى: يرى أرسطو أنها "حاجز ضد الثورات" لأنها توازن بين فقراء وأغنياء .
التربية على الفضيلة: التعليم يجب أن يكرس قيم الدستور .
2. أسباب سقوط الأنظمة
الظلم في توزيع السلطة: مثل حرمان الأكفاء أو تركيز الثروة.
الإهانة والخوف: استفزاز الجماعات القوية أو إهمال مصالح الضعفاء .
الكتاب السادس والسابع: المدينة الفاضلة والتعليم
1. مواصفات المدينة المثالية ("مدينة الصلاة")
حجم محدود: كبيرة بما يكفي للاكتفاء الذاتي، صغيرة بما يسمح بالمعرفة المتبادلة بين المواطنين.
فصل الوظائف: المواطنون (الذكور الأحرار) يشاركون في السياسة والحرب، بينما العبيد والأجانب يقومون بالأعمال اليدوية .
2. نظام التعليم
يركز على:
التربية الجسدية: تمارين القوة والصحة.
التربية الفكرية: القراءة والكتابة والفلسفة.
الموسيقى: تُدرّس لتنقية الروح (κάθαρσις) وتربية الذوق الأخلاقي، لا للتسلية .
الكتاب الثامن: التربية كأساس للفضيلة
(ملاحظة: بعض الترجمات مثل ترجمة بيتر سيمبسون تعيد ترتيب الكتب 7-8 قبل 4-6 لتحقيق التسلسل المنطقي )
هدف التعليم: صنع مواطن قادر على "الحكم وحكم نفسه" عبر تنمية العقل والأخلاق.
نقد التربية المهنية: يعارض أرسطو تعليم المهارات العملية فقط، مؤكدًا أن التربية الليبرالية (في الفنون والعلوم) هي طريق السعادة .
تأثير الكتاب
1. إشكاليات مثيرة للجدل
العبودية: تناقض ذاتي؛ فإذا كان العبد يستوعب الأوامر، فهو يملك عقلًا، مما يناقض فكرة "العبودية الطبيعية" .
المرأة: يراها "ناقصة العقل" مقارنة بالرجل، مما يبرر تبعيتها في الأسرة .
الامبريالية: انتقاده لحكم مقدونيا (مسقط رأسه) بينما كان تلميذ الإسكندر يثير تساؤلات عن نزاهته .
2. التأثير التاريخي
الفكر الوسيط: طوّر توما الأكوين أفكاره عن "الحكم العادل" مستندًا إلى أرسطو.
العقد الاجتماعي: هاجم هوبز أفكاره لربطها الفضيلة بالسياسة، معتبرًا أنها تسبب الحروب الأهلية .
الليبرالية: انتقد جون ستيوارت ميل فكرة "الحياة الطيبة" الموحدة، مؤكدًا على حرية الفرد في تحديد سعادته .
3. الإرث المعاصر
الجمهورية الدستورية: أفكاره عن "الدولة المختلطة" (Polity) أثرت في دستور الولايات المتحدة .
الخير العام: يُستشهد به في النظريات الجمهورية التي تعارض الفردية الليبرالية .
لماذا الكتاب أساسيً؟
رغم تناقضات "السياسة" مع القيم الحديثة، فإنها تطرح أسئلة جوهرية:
"كيف تتحول المجتمعات من مجرد العيش إلى العيش بشكل جيد؟ وكيف توازن بين الحرية والفضيلة؟" .
يظل أرسطو مرجعًا لكل من يدرس الاستقرار السياسي، العدالة التوزيعية، ودور التعليم في بناء الأمة. كما قال كارنيس لورد في ترجمته الشهيرة:
"إنه ليس مجرد نص تاريخي، بل مرآة لأزمات الحكم الدائمة
0 تعليقات