"في الصيف" لطه حسين
الكتاب وسياقه التاريخي
صدر كتاب "في الصيف" لأول مرة عام 1933 أثناء إقامة طه حسين في فرنسا، ونُشرت نسخة معدلة عنه عام 2013 عبر مؤسسة هنداوي . يُعد العمل سردًا ذاتيًا يجمع بين أدب الرحلة والتأملات الفلسفية، كُتب خلال ليالي صيفية هادئة في باريس، حيث استلهم الكاتب جمال الطبيعة ("صفاء السماء، وعليل الهواء، وغريب الحياة") لصياغة خواطره . يقع الكتاب في 61 صفحة فقط، لكنه يختزل رؤى عميقة عن الوجود والإنسان .
البنية الفريدة: رحلتان متداخلتان
الرحلة الخارجية: من مصر إلى فرنسا
يسرد طه حسين تفاصيل رحلته البحرية مع عائلته (زوجته سوزان وابنيه أمينة ومؤنس) من الإسكندرية إلى مرسيليا، ثم انتقالهم إلى باريس. يصف المشاهد البحرية وحياة السفينة، ويقارن بين الحياة في مصر وفرنسا، مشيرًا إلى أن الأخيرة تمنحه "حظًا أكبر من الحرية" . تنتهي هذه الرحلة بمفارقة مؤلمة: عودته ليجد صديقه رئيس الوزراء المصري عبد الخالق ثروت قد توفي، مما يدفعه إلى تأمل مفارقة الوداع ("كلمة كلها أمل ورجاء قد تصدقه الأيام وقد تكذبه") .
الرحلة الداخلية: حوار الذات والوجود
تمثل الجزء الأعمق من الكتاب، حيث يحاور الكاتب نفسه حول:
تناقض المشاعر الإنسانية: كالأمل واليأس، الحزن والفرح، كما في قوله: "تلك اللحظات تجيش في النفس أشتاتًا من المشاعر، تبعث فيها الأمل تارة، واليأس والكآبة تارة أخرى" .
صراع الذات: عبر محادثات تخيلية مع شخصيات فارقة في حياته، مثل حواراته مع صديقه الراحل ثروت، التي تكشف ندمه على لحظات الصمت بينهما .
الكتب السماوية: يقدم تحليلًا أدبيًا غير مسبوق للقرآن والإنجيل والتوراة، معتبرًا إياها نصوصًا تحتوي "جمالًا فنيًا وفلسفيًا" يتجاوز الأبعاد الدينية .
الثيمات المركزية: تحليل نقدي
الحرية كحاجة وجودية
يسلط الضوء على اختلاف تجربة القراءة في مصر عنها في فرنسا، حيث يشير إلى أن الأخيرة تمنحه حرية فكرية أوسع:
"يستطيع أن يقضي نهاره وليله كما في مصر، لكن بحظ أكبر من الحرية" .
هذه الملاحظة تعكس رؤيته التنويرية الداعية لتحرير العقل من القيود الاجتماعية.
الفن والدين: ثنائية متصالحة
في فصل "لغو الصيف"، يجادل طه حسين بأن الفن والدين ليسا نقيضين، بل يمكن للفن أن يُقدس الروح عبر الجمال. ينتقد هنا انغلاق المؤسسات الدينية مثل الأزهر تجاه التحليل الجمالي للقرآن، مقارنًا إياه بانفتاح الباحثين الغربيين على دراسة النصوص المقدسة فنياً .
الذاكرة والفقدان: تراجيديا الإنسان
يُظهر الكتاب كيف يتحول الفراق العادي إلى مأساة عبر الموت، كما في حكاية صديقه ثروت. هنا يتحول الصيف من رمز للبهجة إلى استعارة عن زوال الأشياء:
"انتهت الرحلة بموت الصديق الذي لن يتلقاه مجددًا" .
الأسلوب الأدبي: بصيرة العمي الذي يرى
رغم فقدان طه حسين بصره، اعتمد على:
الحواس غير البصرية: كوصف حرارة الشمس على الجلد، صوت الأمواج، رائحة القرنفل .
الذاكرة الحافظة: باستدعاء مشاهدات سابقة لوصف الأماكن (مثل متحف اللوفر) .
السرد بضمير المتكلم: مما خلق شعورًا بالألفة بين القارئ والكاتب .
المشاهد الحوارية: كتلك بينه وبين صديقته الخيالية في حديقة النيل، التي تناقش فيها دور الأدب ("أليس الأدب وسيلة لتحمل الحياة؟") .
السياق التاريخي والفكري: صراع التنوير
كُتب الكتاب خلال مرحلة حرجة من حياة طه حسين:
بعد عودته من فرنسا حاملاً درجة الدكتوراه الثانية عن ابن خلدون .
أثناء صدامه مع المؤسسة التقليدية بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي" .
في ظل محاولته التوفيق بين الهوية العربية والمنهج الغربي، كما يظهر في تحليله للكتب المقدسة عبر منظور جمالي .
تأثير الكتاب وصيرورته الثقافية
التقييمات النقدية: حصل على تقييمات متوسطة (3/5) على "غودريدز"، حيث أشاد البعض بعمق الأفكار، وانتقد آخرون إطالة الحوارات التأملية .
الترجمات: تُرجم إلى الفرنسية عام 1957 تحت عنوان "Été" .
العلاقة بأعمال أخرى: يشكل ثنائية مع كتابه "رحلة الربيع والصيف" (1957) الذي وصف فيه رحلته لليونان .
اقتباسات جوهرية من الكتاب
"كلمةٌ كلها أمل ورجاء قد تصدقه الأيام وقد تكذبه" [مقدمة الكتاب حول وداع الأصدقاء].
"ومن الناس من يكتفي بمدينة من المدن ذات الحظ العظيم من الحضارة... حيث يستمتع بحظ من الحرية لا يستمتع به عادة في مصر" [وصف الحياة في باريس] .
"وسل شيوخ الأزهر عن جمال القرآن الفني، فلن تجد عندهم غناءً... لأن الشعور بالجمال الأدبي موقوف على درس الأدب نفسه" [نقد الانغلاق الديني] .
الصيف كاستعارة للحياة
"في الصيف" ليس مجرد يوميات رحلة، بل هو تأمل في الإنسان بوصفه كائنًا متناقضًا، يحمل في داخله:
صراع الأنا والذات: عبر الحوارات الداخلية.
الحرية كضرورة: عبر المقارنة بين الشرق والغرب.
الفن كجسر بين المقدس والدنيوي: عبر تحليل النصوص الدينية.
يختتم طه حسين برسالة ضمنية: الحياة أشبه بصيف عابر، يجب أن نعيشه بتأمل وجرأة، قبل أن يحل شتاء العدم. هذا الجمع بين الفلسفة والأدب يجعل الكتاب مرآة لمشروع طه حسين التنويري، الذي دعا فيه إلى "اتخاذ الوسائل الغربية في التفكير مع الحفاظ على الثقافة العربية" .
"لقد كان الصيف رحلة في الخارج، لكنه كان أيضًا رحلة في أعماق ذلك الرجل الذي رأى بعين قلبه ما عجز المبصرون عن رؤيته
أقرأ أيضاَ
ملخصات كل أعمال الاديب والمفكر طة حسين
0 تعليقات