الباقي من الزمن ساعة

 

"الباقي من الزمن ساعة" لنجيب محفوظ

 مرثية الحلم الثوري المجهض


"الباقي من الزمن ساعة" (نشرت لأول مرة عام 1982) من الروايات القصيرة ذات الطابع الرمزي والسياسي العميق، التي كتبها نجيب محفوظ في مرحلة ما بعد نكسة 1967 ومرحلة ما بعد الانفتاح. تطرح الرواية رؤية ناقدة لفشل المشروع القومي الثوري في مصر، وذلك من خلال قصة مجموعة من الرفاق القدامى الذين حملوا شعارات الثورة والتغيير، لكنهم انتهوا إلى العجز أو الخيانة أو التواطؤ.

الرواية تصور زمنًا منهارًا، وحلمًا ثوريًا يحتضر، وإنسانًا حائرًا بين مثالية الماضي وواقعية الحاضر. وعنوانها الرمزي "الباقي من الزمن ساعة" يشير إلى اقتراب النهاية، سواء كانت نهاية الشخصيات أو الحلم نفسه.


 البنية السردية

الرواية تسير في خط سردي واحد بسيط: شخصية "خليل عبد الكريم"، أحد مناضلي الحركة الثورية في شبابه، يقرر زيارة رفاقه القدامى بعد سنوات من القطيعة. كل زيارة تكشف عن تحول أحد هؤلاء المناضلين من بطل إلى كائن منهزم، متكيف، أو خائن للمبادئ.

لكن هذا البناء البسيط يخفي وراءه بنية رمزية غنية، حيث ترمز الشخصيات المختلفة إلى أطياف متعددة من التيارات الفكرية والسياسية التي سادت مصر في الأربعينيات والخمسينيات، وانتهت إلى الفشل أو التراجع.


 البطل: خليل عبد الكريم

يُقدَّم "خليل" بوصفه الشخصية المركزية في الرواية، وهو مثقف يساري، شارك في أنشطة سياسية سرية، آمن بالحلم الاشتراكي الثوري، ودفع ثمن ذلك بالسجن.

بعد سنوات من العزلة، يتحرك في رحلة تأملية، لا لاستعادة الزمن، بل لرؤية ما تبقى من رفاقه، أو "الحلم الثوري". هو رمز للضمير الذي لم يساوم، لكنه أيضًا لم ينجح في التغيير.
هو المُحبَط النبيل، الذي يشاهد بألم كيف صار الحلم كابوسًا، وكيف تحوّل المناضلون إلى خدم للسلطة، أو عبيد للمصالح.


 الشخصيات الرمزية: سقوط الرفاق

في كل فصل من فصول الرواية، يزور خليل أحد رفاقه القدامى. ومع كل زيارة، تتكشف طبقة من طبقات الخيبة الوطنية والإنسانية.

 1. سعد الداودي – الخائن النخبوي

مناضل سابق، أصبح رجل أعمال ثريًا، متعاونًا مع السلطة، يتحدث عن الوطنية والتنمية وهو يمارس الاستغلال والانتهازية.
يرمز إلى أولئك الذين باعوا المبادئ مقابل الثراء والمكانة، وتحولوا من محاربين للفقر إلى رموز له.

 2. رؤوف – المثقف المبرر

كاتب ومفكر، كان شغوفًا بالحرية، لكنه صار بوقًا للنظام، يبرر القمع باسم الاستقرار، ويقدّس السلطة باسم الوطنية.
هو رمز للمثقف الانتهازي، الذي يحوّل قلمه من سلاح للتغيير إلى أداة للدفاع عن الفساد.

 3. رشاد – السجين الأبدي

ما زال يعيش على ذكريات السجن والنضال، لم يتقدم خطوة في حياته، يرفض الواقع، لكن دون قدرة على الفعل.
يرمز إلى النموذج الرومانسي المنكفئ على الماضي، الذي عجز عن التأقلم مع الحاضر أو تغييره.

 4. منى – الانسحاب الأنثوي

حبيبة خليل القديمة، كانت شابة مثقفة مؤمنة بالتغيير، لكنها اختارت الزواج من رجل محافظ و"آمن".
تمثل المرأة التي تخلّت عن الحلم الثوري من أجل الاستقرار الشخصي، وتُجسّد تواطؤ المجتمع في كبح التحول.


 الرموز والدلالات

 1. الساعة – اقتراب النهاية

الزمن هو بطل خفي في الرواية. "الباقي من الزمن ساعة" تشير إلى اقتراب نهاية جيل، وربما نهاية وطن أو فكرة. الزمن هنا لا يرحم، بل يكشف الخسارات، ويعمّق الإحباط.

 2. خليل – صوت الضمير

هو الراوي الشاهد، الوحيد الذي لم يغيّر مبادئه، لكنه لم يحقق شيئًا أيضًا.
يرمز إلى اليساري النقي الذي انكفأ، وترك الساحة للمنتفعين والانتهازيين. هو "الخاسر الشريف".

 3. البيت / اللقاءات – المسرح الرمزي

كل بيت يزوره خليل يشبه "مسرحًا صغيرًا" يُعرض فيه مشهد من مشاهد الانهيار.
البيوت ليست أماكن للدفء، بل رموز للاغتراب، حيث لا يجد خليل نفسه بين من كانوا "أهله".


 أفكار الرواية المحورية

 الحلم الثوري والإحباط

الرواية تطرح سؤالًا قاسيًا: هل فشل المشروع الثوري بسبب خيانة الأشخاص أم بسبب فشل الفكرة نفسها؟
هي نقد لأوهام التغيير السريع، والبطولة المجانية، والانخداع بالشعارات.

 الانتهازية السياسية

الرواية تفضح كيف تحوّل النضال السياسي إلى سلعة، وكيف استغلّ البعض تاريخه النضالي ليحجز لنفسه مقعدًا في السلطة أو السوق.

 الزمن كقاضٍ

الزمن في الرواية ليس مجرد إطار، بل هو قاضٍ لا يرحم، يكشف من ثبت على مبدئه ومن تراجع، من كسب روحه ومن باعها.


 الأسلوب واللغة

نجيب محفوظ يكتب الرواية بأسلوب موجز، رمزي، حواري.
لا يوجد سرد طويل، بل مشاهد حوارية مكثفة، تنقل الفكرة عبر الحديث المباشر.
اللغة بسيطة، لكنها عميقة، وتحمّل في طياتها ألمًا ساخرًا من كل ما حدث، دون خطابية أو وعظ.


اخر الفصول 

في نهاية الرواية، يكتشف خليل أن لا أحد من رفاقه بقي كما كان.
ويخرج من لقاءاته محمّلًا بالحزن والخذلان، دون أن يجد من يشاركه همّه.
لا نهاية درامية للرواية، بل صمت مؤلم، يوحي بأن الزمن قد انتهى، ولم يبقَ سوى "ساعة".


عن الروايه 

"الباقي من الزمن ساعة" ليست رواية عن السياسة فقط، بل عن الخيبة الوجودية التي تعيشها أمة خانت أحلامها.
هي نقد لمرحلة، وجيل، وتاريخ، لكنها أيضًا دعوة صامتة للتأمل:

هل يمكن أن نحلم من جديد، دون أن نعيد الأخطاء ذاتها؟

إنها مرثية للثورة، وصرخة في وجه الزيف، وواحدة من أعظم الروايات التي كتبت عن فشل النخبة العربية في صناعة التغيير الحقيقي.


إرسال تعليق

0 تعليقات