"من بعيد" لطه حسين
تأملات في الذاكرة، الطفولة، والهوية
"من بعيد" من أصدق وأرقى ما كتبه الدكتور طه حسين من نصوص أدبية وسيرية، فهو كتاب يجمع بين أدب السيرة الذاتية، والتأمل الفلسفي، والشعر النثري، ويعكس صورة عميقة لإنسان عاش بين الألم والأمل، بين الظلمة والبصيرة، بين الماضي والحاضر.
كتب طه حسين هذا الكتاب في مرحلة من النضج العقلي والوجداني، إذ عاد بذاكرته إلى فترات مبكرة من حياته، مستعرضًا تفاصيل طفولته وشبابه ومواقفه المبكرة من الدين، والتعليم، والأسرة، والمجتمع.
لكنه لا يروي الحكايات لمجرد التوثيق، بل يتعامل مع الذاكرة كأداة للتفكر في معاني الوجود والهوية والنشأة.
بنية الكتاب وأسلوبه
يتكون الكتاب من مجموعة من الفصول أو النصوص المتتابعة التي تأخذ شكل الخواطر الطويلة. ولا يتبع طه حسين تسلسلاً زمنيًا جامدًا، بل يتنقل بحرية بين الحاضر والماضي، بين الداخل والخارج، بأسلوب لغوي رقيق يحمل مسحة من الحزن، والدهشة، والحكمة الهادئة.
الأسلوب يتميز بـ:
-
لغة شاعرية ناعمة.
-
نبرة حنينية صادقة.
-
صور فنية تدمج الواقع بالرمز.
-
تأملات فلسفية مغلفة بذكريات شخصية.
الموضوعات الأساسية في "من بعيد"
1. الطفولة والبراءة المفقودة
يشكل تصوير الطفولة محورًا أساسيًا في "من بعيد".
يتحدث طه حسين عن طفولته في قرية من صعيد مصر، ويصورها كمزيج من:
-
الدهشة والسذاجة، حيث لم يكن يدرك العالم كما هو، بل كما يتخيله.
-
الحرمان والحساسية المفرطة، نتيجة فقدانه البصر منذ الصغر.
-
الارتباط العميق بالعائلة، خاصة أمه، التي كانت مصدر الحنان والطمأنينة.
الطفولة في هذا السياق ليست فقط مرحلة عمرية، بل رمز لحالة من الصفاء الوجداني والبراءة التي سرعان ما تتبدد بفعل قسوة الحياة.
“كنت أرى الأشياء لا ببصري، ولكن ببصيرتي… وكان ما في نفسي من ضوء يفيض على كل شيء فأراه في وهج خيالي.”
2. العجز والنور الداخلي
من الموضوعات اللافتة التي يناقشها طه حسين بتجرد وصدق، موضوع فقد البصر. لا يقدّمه من باب الشكوى، بل يطرحه كأحد العناصر التي شكلت شخصيته وساهمت في بناء إدراكه المختلف للعالم.
كان طه حسين يرى بعقله وقلبه، ويعوض فقد بصره بـ:
-
الخيال الخصب.
-
التركيز السمعي العميق.
-
الحساسية الوجدانية الدقيقة.
ويرى أن العمى كان، على نحو ما، حافزًا لفهم الأشياء على نحو أعمق، وليس سببًا في العزلة أو الانطفاء.
3. الأسرة والحنين إلى الأم
تتكرر صورة الأم في الكتاب، ويظهر أثرها العاطفي والوجداني العميق في وجدان طه حسين. كانت الأم رمزًا للطمأنينة والقبول غير المشروط، ومصدرًا للحب الغريزي في عالم بدا له غريبًا وقاسيًا.
أما الأب، فيصوره الكاتب برصانة، يمثل رمزًا للصرامة والتقاليد الدينية والاجتماعية، لكنه يبقى شخصية ذات حضور عاطفي خافت مقارنة بالأم.
هذه العلاقة بالأم، وحنينه إليها، تعبّر عن فقدان نوع من الأمان العاطفي الذي لا يعوّضه العلم أو المنصب أو النجاح.
4. التعليم والتكوين العقلي
يتطرق طه حسين إلى تجربته المبكرة في التعليم، حيث انتقل من الكُتاب إلى الأزهر، ثم إلى الجامعة المصرية، وأخيرًا إلى فرنسا.
لكنه لا يرويه كقصة نجاح نمطية، بل يُسلط الضوء على:
-
التعليم التقليدي في الأزهر، الذي وجده جامدًا، قائمًا على الحفظ والتلقين.
-
صدمته من الفكر الديني المغلق، وحاجته إلى فكر أكثر حرية وانفتاحًا.
-
اكتشافه للفلسفة والأدب الغربي في باريس، حيث شعر لأول مرة بأنه حر في فكره وذائقته.
وقد كتب عن تلك المرحلة بأسى، كاشفًا عن صراع داخلي بين الموروث والحداثة، بين التقاليد والانفتاح.
5. الهوية والانتماء
في "من بعيد"، يبحث طه حسين عن معنى الانتماء الحقيقي:
هل هو انتماء للقرية؟
أم للثقافة الإسلامية؟
أم للفكر الغربي الحديث؟
يناقش هذه المسألة بطريقة غير مباشرة، عبر تصوير تناقضات داخلية يعيشها الإنسان العربي الحديث، الذي يريد أن يتجدد دون أن ينكر جذوره.
طه حسين كان يؤمن أن:
-
الأصالة لا تعني الجمود.
-
والانفتاح لا يعني الانسلاخ.
-
الهوية لا تُبنى بالتقليد، بل بالحوار بين الموروث والوعي الحديث.
6. الحنين والزمن
يهيمن على أسلوب الكتاب طيفٌ من الحنين والشعور العميق بزوال الأشياء.
فالزمن عند طه حسين ليس خطًا مستقيمًا، بل هو دائرة من الذاكرة المتجددة واللحظات المتلاشية.
يتحدث كثيرًا عن:
-
أصدقاء الطفولة الذين تفرقوا.
-
الأم التي غابت.
-
البيت الذي لم يعد كما كان.
وهذا الحنين ليس فقط للمكان، بل للحالة الروحية التي عاشها وهو صغير، حين كان يرى العالم بعين الحب والخيال، لا بعين الفلسفة والنقد.
أبعاد فكرية وأدبية في الكتاب
1. أدب السيرة الذاتية بروح الشعر
طه حسين لم يكتب "من بعيد" كوثيقة سيرية تقليدية، بل كتبه كـ عمل أدبي مليء بالحس الفني، فيه:
-
بناء سردي غير خطي.
-
لغة مشحونة بالعاطفة.
-
خيال واسع يربط بين الشعور والمكان.
2. الفكر الإصلاحي بين السطور
رغم الطابع الذاتي، فإن الكتاب ينطوي على نقد اجتماعي مبطن:
-
لنظام التعليم.
-
للموروث الديني المتصلب.
-
للطبقات الاجتماعية التي تقيد الطموح.
ويقدّم رؤية إنسانية شاملة، ترفض الحتمية الاجتماعية، وتؤمن بأن الإنسان، مهما كانت معيقاته، قادر على أن يصنع مصيره.
"من بعيد"... سيرة من القلب لا من الورق
يخرج القارئ من "من بعيد" وهو يشعر بأنه لم يقرأ كتابًا فقط، بل عاش رحلة وجدانية بصحبة إنسان صادق، نقي، عميق التأمل.
طه حسين لم يكن يسعى إلى إثارة الإعجاب أو السرد البطولي، بل أراد فقط أن يقول:
-
أن الإنسان لا يُقاس بنجاحه الخارجي فقط، بل بقدرته على أن يحب ويتألم ويتأمل.
-
أن الألم، حين يُكتب بصدق، يتحول إلى فن راقٍ.
-
وأن الطفولة، رغم فقرها أو حرمانها، قد تُغني الوجدان مدى الحياة.
"من بعيد" كتاب صغير في حجمه، لكنه عظيم في صدقه وتأثيره، ويستحق أن يُقرأ لا مرة واحدة، بل مرات عديدة، لأنه نصّ من القلب، يلامس القلوب جميعًا.
أقرأ أيضاَ
0 تعليقات