بين القصرين لنجيب محفوظ
تعد رواية "بين القصرين" (1956) الجزء الأول من ثلاثية نجيب محفوظ الأدبية الخالدة، وهي عملٌ لا يُختزل في سرد أحداثه فحسب، بل يُفهم كمرآة عاكسة لتاريخ مصر الاجتماعي والسياسي في حقبة مفصلية. من خلال هذا المقال، سنستعرض أبعاد الرواية متعددة المستويات، مبرزين كيف نسج محفوظ عالماً إنسانياً مكتملاً من خيوط الواقعية والنقد الاجتماعي.
السياق التاريخي والإطار الروائي
تدور أحداث الرواية في حي الجمالية بالقاهرة خلال السنوات المحيطة بثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني. اختار محفوظ شارع "بين القصرين" (الذي يُشير اسمه إلى ما كان يوماً موقعاً لقصور الفاطميين) ليس كمجرد مكان للأحداث، بل كرمز لصراع الهوية بين ماضٍ عريق وحاضر متقلب. هنا، يلتقط الكاتب تحولات مصر من المجتمع التقليدي إلى عتبات الحداثة، معبراً عنها من خلال حياة أسرة السيد أحمد عبد الجواد، وهي أسرة من الطبقة المتوسطة تمثل نموذجاً مصغراً للتناقضات الاجتماعية السائدة .
الشخصيات: عوالم داخلية وجبروت اجتماعي
1. السيد أحمد عبد الجواد: الاستبداد المزدوج
في المنزل: يجسد "سي السيد" الأب المتسلط الذي يحكم أسرته بقبضة حديدية. زوجته وأبناؤه يخضعون لطقوس صارمة: تقبيل يده صباحاً، انتظار الإذن للتحدث، وعزل النساء عن العالم الخارجي. تدور حياته حول مبدأين: "الوقار" الظاهري و"الطاعة المطلقة" .
خارج المنزل: يتحول إلى شخصية متناقضة – مرحٌ، كريم، يعاقر الخمر ويقضي لياليه مع المغنين والعاهرات. هذه الازدواجية تفضح تناقض الأخلاق البطريركية التي تفرض قيوداً على النساء والأبناء بينما تمنح الرجل حريّة مطلقة .
2. أمينة: الصمت والتضحية
زوجة السيد أحمد، التي تُختزل حياتها في انتظار أوامره وخدمته. خروجها الوحيد دون إذنه – لزيارة مسجد الحسين – يُعتبر "جريمة" تُهدّد كيان الأسرة، مما يُسفر عن طردها مؤقتاً من المنزل. أمينة تمثل نموذج المرأة المُسَلَّمة لقدرها، حتى في مشاعرها الدينية التي تُختزل داخل جدران البيت .
3. الأبناء: جيل بين مطرقتين
ياسين (الابن الأكبر): يرث شهوة أبيه وانغماسه في الملذات، لكنه يفتقر إلى هيبته. زواجه الفاشل يكشف عجزه عن الموازنة بين التقاليد والرغبة.
فهمي (الابن الثاني): طالب الحقوق المثالي، يُشارك سراً في الثورة. استشهاده برصاص الاحتلال يُشكل نقطة التحول الأكثر إيلاماً في الرواية، حيث يهز صورة الأب الذي لا يُهزم .
كمال (الأصغر): الطفل الفضولي الذي يُشكّل وعيه عبر مراقبة تناقضات الكبار، مُهيئاً ليكون جسراً بين الأجيال في أجزاء الثلاثية التالية.
خديجة وعائشة (البنتان): الأولى حادة الطباع، والثانية جميلة هادئة. يُحدَّد مصيرهما بالزواج الذي يُنقلهما من سجن الأب إلى عالم جديد قد لا يكون أقل قيوداً .
الأحداث الجوهرية: من الثورة الوطنية إلى الثورة الأسرية
تبدأ الرواية بإيقاع بطيء يرسم الحياة اليومية للأسرة في ظل حكم الأب المطلق:
الصراعات الخفية: خروج أمينة الخفي، علاقات ياسين غير الشرعية، ومشاركة فهمي السرية في المظاهرات.
الزواج كأداة تحكم: يُزوج السيد أحمد بناته وفق مصالحه، بينما يتزوج ياسين ثم يطلّق بعد فشله في السيطرة على زوجته.
ذروة المأساة: مقتل فهمي خلال تظاهرات 1919 يُحدث شرخاً في نفسية الأسرة. هنا يبدأ "سي السيد" في التشكيك في صلابة مبادئه، لكن دون أن ينهار نظامه الاستبدادي تماماً .
"وصلت القصة إلى ذروتها بمقتل الابن، فهمي، خلال المظاهرات" .
الثنائيات الفكرية: محاور الرواية الخفية
◼️ التقليد vs الحداثة
يمثل البيت بجدرانه العالية وعزلة نسائه عالم التقليد، بينما تُمثل الثورة والشارع صوت التغيير. فهمي – القتيل – هو جسر بين العالمين: يُصلّي مع أبيه ويُشارك في التظاهرات سراً .
◼️ الاستبداد vs التمرد
سلطة الأب المطلقة تواجهها أشكال تمرد خفية: صمت أمينة الذي يُخفي احتجاجاً، هروب بناته عبر الزواج، وتمرد فهمي السياسي. حتى السيد أحمد نفسه يتمرد على صورة "الرجل المحترم" ليلاً .
◼️ الوطن كأسرة كبيرة
الاحتلال البريطاني يُصوَّر كـ"أب مستبد" آخر، مما يربط مصير الأسرة بمصير مصر. الثورة على الأب السياسي (الاحتلال) توازي التمرد على الأب الأسري .
الأسلوب الأدبي: حيث اللغة تصنع عالماً
الوصف الحيّ: يتحول حي الجمالية إلى شخصية روائية عبر تفاصيل دقيقة: الأزقة الضيقة، الأصوات، الروائح، وحتى حجرات المنزل. هذا الوصف لا يخدم الديكور بل يُجسّد العزلة والانغلاق:
"الشوارع الضيقة والملتوية تعكس عزلة وانغلاق المجتمع القديم" .
الحوار الداخلي: يكشف خبايا الشخصيات عبر تيار الوعي. مشهد أمينة وهي تستمع من وراء النافذة لضحكات زوجها مع أصحابه – بعد أن عرفته جاداً طوال النهار – يُظهر صدمتها بصوت لا تعرفه .
المفارقة الساخرة: تناقض حياة السيد أحمد يُصوَّر دون تعليق مباشر، تاركاً القارئ ليستنتج الهوة بين المظهر والجوهر.
الإرث الأدبي والتأثير الثقافي
ثلاثية التاريخ المصري: تُعد "بين القصرين" مع "قصر الشوق" و"السكرية" سجلاً روائياً لتطور مصر الاجتماعي من 1917 حتى 1944، حيث تتحول الشخصيات وتتفتت الأسرة مع تحولات البلاد .
تأثير عالمي: ساهمت الثلاثية في حصول محفوظ على نوبل للأدب (1988) كأول عربي ينالها. لجنة نوبل وصفتها بأنها "عمل يمتلك قوة السرد الكوني" .
تحولات السي السيد إلى أيقونة: صار "سي السيد" نموذجاً لكل سلطة بطريركية في الأدب العربي، كما تحولت شخصيته إلى رمز ثقافي عبر المسلسل التلفزيوني الذي قام بدوره الممثل يحيى الفخراني .
لماذا تظل "بين القصرين" ضرورية؟
ليست الرواية مجرد سرد لأحداث عائلة في زمن الثورة، بل هي تشريح لجذور الاستبداد في المجتمع العربي، وتوثيق للصراع بين الخوف من التغيير والرغبة في الحرية. نجيب محفوظ لا يقدم أبطالاً خارقين، بل أناساً يعيشون تناقضاتهم كمرآة لنا جميعاً. كما قال أحد النقاد:
"محفوظ لا يصف القاهرة القديمة فحسب، بل يسبر أغوار نفوس الشخصيات ويضع القارئ في قلب عقولهم" .
"بين القصرين" تخبرنا أن الثورات الكبرى تبدأ من البيوت الصغيرة، وأن التحرر من قيودنا الشخصية قد يكون أصعب من تحرير الأرض
0 تعليقات