بداية ونهاية


 

 بداية ونهاية – نجيب محفوظ

 صراع المصير في دروب القاهرة المسدودة


رواية "بداية ونهاية" هي واحدة من أعمق وأقسى روايات الأديب العالمي نجيب محفوظ، كتبها عام 1949، وهي تسبق ثلاثيته الشهيرة زمنيًا، لكنها لا تقل عنها في الغوص في النفس المصرية، وتحليل المجتمع، وتشريح الطبقات.

يصور محفوظ في هذه الرواية أسرة مصرية بسيطة تواجه الانهيار الطبقي بعد وفاة معيلها، ويعرض من خلالها قضايا الطموح، الفقر، الصراع الأخلاقي، والسقوط القسري في عالم لا يرحم. الرواية تأخذ طابعًا دراميًا مأساويًا، يمزج بين الأسلوب الواقعي والاجتماعي، ما يجعلها مرآة لواقع لا يزال يعيد إنتاج نفسه إلى اليوم.


 خلفية الرواية وأحداثها

تدور أحداث الرواية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، في أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة، حيث تواجه عائلة "كامل علي" ضربة قاسية بوفاته المفاجئة، وهو المعيل الوحيد للأسرة. يترك خلفه أرملته "زينب هانم"، وأربعة أولاد: حسن، حسين، نفيسة، وكامل، ليبدأ الجميع معركة البقاء ضد الفقر، والانهيار، والخيارات الصعبة.

الرواية لا تقدم حكاية واحدة، بل حكايات متداخلة، لكل شخصية مسارها الخاص، وتحدياتها، واختياراتها التي تقودها إلى مصير محتوم. من البداية إلى النهاية، تدور الرواية حول فكرة واحدة: كيف يتعامل الإنسان مع قسوة الحياة عندما تنهار كل مقومات الاستقرار؟


 تحليل الشخصيات

1. الأم – زينب هانم

تمثل الأم الصبورة التي تحاول التماسك بعد فقدان زوجها. تسعى لتربية أبنائها وتعليمهم، لكنها تفشل في إدراك التحولات النفسية التي تصيبهم.
تحلم بمستقبل "محترم" لأبنائها، لكنها غير قادرة على التحكم في المصير. تتحول مع الزمن من ركيزة إلى عبء، تعيش على الهامش، لا تدرك إلا بعد فوات الأوان أن العائلة انهارت من الداخل قبل أن تنهار خارجيًا.


2. حسن كامل – الابن الأكبر

يتجه بعد وفاة والده إلى العمل في المقاهي وحياة اللهو، ويصبح فردًا في الطبقة المهمشة والعشوائية. يعيش بلا طموح، بلا التزام، ويبدو كشخص مستسلم لواقعه، لكنه في الحقيقة يعبّر عن طبقة شعبية تعيش على هامش النظام دون أن تنتظر منه شيئًا.

رغم عدم استقامته، يُظهر حسن وجهًا من التضامن الأسري، خصوصًا تجاه شقيقته نفيسة، لكنه لا يملك الأدوات الفعلية لمساعدتها.


3. حسين كامل – الطالب المجتهد

يمثل الحلم المشروع للطبقة الوسطى. شاب طموح، يدرس في الكلية، ويحاول أن يكون أمل العائلة بعد وفاة الأب. يعيش صراعًا داخليًا بين واقعه البائس وطموحه للترقي الطبقي.

يُظهر حسين نوعًا من الأنانية المغلفة بالاجتهاد، إذ يتخلى عن أسرته تدريجيًا في سبيل الحفاظ على مستقبله، ويرفض الاعتراف بما يحدث لشقيقته، بل يقرر الابتعاد عنهم حين ينكشف أمرها.


4. نفيسة – الأخت الوسطى

ربما تكون أكثر شخصيات الرواية مأساوية وتعقيدًا. فتاة جميلة، تُجبر على ترك التعليم لتعمل في الخياطة وتساهم في إعالة الأسرة. تبدأ تشعر بأنها مُهمّشة وغير مرئية، بينما يُغدق الاهتمام على شقيقيها.

تقع ضحية لشاب يغرر بها، فتفقد عذريتها، لتجد نفسها منبوذة في مجتمع لا يرحم المرأة. وبسبب العار الاجتماعي، تدخل عالم الدعارة في الخفاء، محاولة إعالة أسرتها بثمن شرفها، بينما هم لا يعلمون كيف يعيشون إلا بفضلها.

نهاية نفيسة مأساوية، إذ يُكتشف أمرها، وتُقابل بالعار والاحتقار، رغم أنها كانت الضحية الكبرى.


5. كامل – الابن الأصغر

الطفل الصغير، الذي لا يشارك كثيرًا في الأحداث، لكنه يرمز إلى المستقبل المجهول. لا نعرف مصيره، لكن الرواية تتركه كشعاع أمل رمادي، وكأن محفوظ يقول إن الأجيال القادمة قد تُعيد المحاولة، لكنها ستواجه نفس المصير ما لم يتغير السياق.


 تطوّر الحبكة

تبدأ الرواية بداية بسيطة: وفاة الأب، وبدء محاولة الأم السيطرة على الوضع. ثم نتابع كل فرد من الأسرة في رحلته الخاصة:

  • حسن ينغمس في الهامش،

  • حسين يتشبث بالتعليم،

  • نفيسة تسقط في السر،

  • الأم تتدهور نفسيًا،

  • والعائلة تتآكل.

كل شخصية تختار طريقًا، ولكن يبدو أن كل الطرق تؤدي إلى النهاية المأساوية. في النهاية، عندما تُكتشف حياة نفيسة، يُقتلها شقيقها حسن دفاعًا عن الشرف، وتسقط الأسرة نهائيًا في قاع الفشل والتشرد والضياع.


الموضوعات الرئيسية في الرواية

1. الفقر والطبقة

الرواية تصور بدقة صراع الطبقة المتوسطة مع الانحدار الاجتماعي. العائلة كانت تعيش حياة شبه كريمة، لكن موت الأب كان كافيًا لتدمير ذلك. يظهر كيف أن الفقر ليس فقط ماديًا، بل يؤثر على القرارات، والقيم، والمصير.


2. صراع الطموح والواقع

يتجلى الصراع في شخصية حسين، الذي يسعى للترقي، لكنه يضطر للتخلي عن أسرته. يرمز إلى تلك الفئة التي تحاول "النجاة الفردية" على حساب الجماعة.


3. قضية الشرف والمرأة

قضية "الشرف" مطروحة بحدة في الرواية، حيث تتحول نفيسة من فتاة بائسة إلى رمزية للعار، رغم أن المجتمع كله شارك في تدميرها. الرواية تنتقد بوضوح نظرة المجتمع القاسية للمرأة، ومعاييره المزدوجة.


4. الأسرة والانهيار الداخلي

الرواية تُظهر أن الانهيار لا يأتي من الخارج فحسب، بل من داخل الأسرة ذاتها. العائلة تتآكل من الداخل، وتنتهي إلى موت وقتل وصمت.


 الأسلوب الفني

نجيب محفوظ يكتب بأسلوب واقعي صارم، مباشر، وبدون رتوش. لا يعتمد على الزخارف البلاغية، بل يركز على تحليل الشخصيات ونفسياتها.
الرواية مكتوبة بأسلوب تقليدي من حيث التسلسل، لكن عمقها النفسي والاجتماعي يجعلها رواية متقدمة على زمنها.

تتجلى قدرته في تصوير التدرج النفسي للسقوط، وخلق تعاطف القارئ مع شخصيات مثل نفيسة رغم سقوطها الأخلاقي، مما يدل على قدرة أدبية وإنسانية عالية.


 رمزية العنوان: "بداية ونهاية"

العنوان يحمل دلالة شديدة الوضوح والتناقض. فكل شخصية تبدأ بأمل معين وتنتهي بسقوط أو موت.

  • البداية: الأمل، الطموح، الحياة.

  • النهاية: الخذلان، الانهيار، العار، الموت.

العنوان يُجسد التحول من النور إلى الظلمة، ومن الحلم إلى الكابوس، دون وجود مرحلة وسطى حقيقية. كأن محفوظ يقول إن الطريق في المجتمعات المأزومة ضيق، والنهاية غالبًا محتومة ما لم يُكسر النظام القائم.


"بداية ونهاية" ليست فقط حكاية أسرة، بل هي مرآة لمجتمع بأكمله. الرواية تسلط الضوء على هشاشة الطبقة المتوسطة في مواجهة الأزمات، وتُظهر كيف أن الانهيار ليس لحظة، بل عملية تدريجية تبدأ بانحراف بسيط وتنتهي بكارثة.

في هذه الرواية، يُحاكي نجيب محفوظ المأساة الإغريقية، لكن بطابع مصري خالص. إنه يقدم عملًا لا يُقرأ فقط، بل يُفكّر فيه، لأنه يفضح آليات السقوط الأخلاقي والاجتماعي في مجتمع لا يُنقذ أبناءه من الجحيم.


إرسال تعليق

0 تعليقات