"البعث" لتولستوي
السياق التاريخي والأدبي للرواية
"البعث" (بالروسية: Воскресение) هي آخر عمل روائي طويل ينشره الأديب الروسي العظيم ليو تولستوي (1828–1910) قبل وفاته بعقد واحد، وقد صدرت عام 1899 .
تعتبر هذه الرواية الدرة الثالثة في تاج أعمال تولستوي بعد "الحرب والسلام" و"آنا كارنينا"، لكنها تميزت بكونها وصيته الفكرية والأخلاقية، حيث تجسد مراجعة ذاتية لمواقفه في سنوات شيخوخته، خاصة تحوله إلى مصلح اجتماعي وناقد لاذع للمؤسسات الروسية . كتب تولستوي الرواية في فترة عُرفت بـ"أزمة الضمير" الشخصية لديه، حيث تخلّى عن الأدب الخالص لصالح الكتابة ذات الرسالة الإنسانية.
الشخصيات الرئيسية: دراسة تحليلية نفسية واجتماعية
الأمير ديمتري إيفانوفيتش نِخليودوف:
النبيل الروسي الثري الذي يعمل ضابطًا في الجيش، يبدأ الرواية كشخصية أنانية ومتغطرسة، يرى العالم من منظور طبقة الأرستقراطية.
تحوله الأخلاقي هو عمود الرواية: من مغوٍ لكاتيوشا في شبابه إلى شخص يشعر بالندم العميق عندما يراها متهمة بالقتل بعد سنوات. ندمه يدفعه للتخلي عن ثروته، توزيع أراضيه على الفلاحين، ومرافقة كاتيوشا إلى سيبيريا .
يمثل الصراع الداخلي لتولستوي نفسه بين "الأنا الحيواني" (الشهوات المادية) و"الأنا الروحي" (الضمير والإنسانية)، كما وصفه تولستوي: "عندما يؤمن الإنسان بنفسه، يبحث عن حلول لمشكلات كثيرة لغير صالح الأنا الحيوانية" .
كاترين (كاتيوشا) ماسلوفا:
الفتاة الريفية التي تعمل خادمة عند عمتي نخليودوف. تُغوى من قبل ديمتري في شبابه، مما يؤدي إلى طردها من المنزل وحملها بطفل يموت بعد الولادة.
ضحية المجتمع: تهبط إلى عالم الدعارة وتحمل "البطاقة الصفراء" الرسمية لهذه المهنة، ثم تُتهم زورًا بقتل أحد زبائنها .
بعثها الخاص: ترفض في النهاية التضحية بديمتري بنفسها، وتختار الزواج من سجين سياسي (سيمونسون)، وهو قرار يعبر عن استقلاليتها الأخلاقية ورفضها أن تكون "فداء" لندم الآخرين .
شخصيات ثانوية دالة:
سيمونسون: السجين السياسي "البراغماتي" الذي يتزوج كاتيوشا، ويمثل البديل الواقعي لديمتري "الفوضوي" .
عمتا ديمتري: تجسيد لازدواجية الأرستقراطية، حيث يطردان كاتيوشا بعد "فضيغتها" رغم مسؤولية ديمتري عنها .
جدول مقارنة بين مسارَيْ الشخصيتين الرئيسيتين:
الجانب | ديمتري نخليودوف | كاتيوشا ماسلوفا |
---|---|---|
الطبقة | أرستقراطي ثري | خادمة ريفية → مومس |
التحول | من الأنانية إلى التضحية | من الضحية إلى الاستقلالية |
الدافع | الشعور بالذنب والندم | الكرامة والبقاء |
الخلاص | توزيع الثروة، مرافقتها إلى سيبيريا | رفضه والزواج من سيمونسون |
الحبكة: سرد تفصيلي للأحداث والرموز
تنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام درامية رئيسية:
الجريمة الأولى: الإغواء والهبوط (الماضي السري):
في شبابهما، كان ديمتري وكاتيوشا صديقين طفوليين بريئين، لكن عودة ديمتري من الجيش كضابط تُغير طباعه. يُغويها في ليلة واحدة ثم يتركها مع مبلغ زهيد من المال. حملها يؤدي إلى طردها، وموت طفلها، ثم انحدارها إلى الدعارة .
تولستوي يصور هذه الحادثة كـجريمة مجتمعية، حيث يُبرر النظام الأرستقراطي أفعال النبلاء ويُحمّل الضحايا تبعاتها.
المحكمة: صدمة الالتقاء والندم (الحاضر المكشف):
بعد 10 سنوات، يُختار ديمتري عضوًا في هيئة محلفين في قضية قتل تتهم فيها كاتيوشا (مع آخرين) بقتل زبون وتسميمه بالزرنيخ. تروي أنها أرادت تنويمه فقط ليتوقف عن إزعاجها .
المشهد المحوري: تعرف ديمتري عليها في قاعة المحكمة، فيصاب بصدمة تذكره بجريمته. هنا يبدأ "بعثه الأخلاقي".
النقد الاجتماعي: تستغل الرواية إجراءات المحكمة لتكشف فساد النظام القضائي الروسي وتفاهة أحكامه، حيث يُحكم على كاتيوشا بـالأشغال الشاقة في سيبيريا رغم ضعف الأدلة .
رحلة سيبيريا: البحث عن الفداء والخلاص (المستقبل المجهول):
يكرس ديمتري حياته لإنقاذ كاتيوشا: يبيع أراضيه، يوزع ثروته، ويتبعها إلى سيبيريا.
خلال الرحلة، يصادق السجناء السياسيين (الذين ينقسمون لـ"عدميين" و"براغماتيين")، ويكتشف فظائع السجون الروسية .
النهاية المأساوية-الرمزية: ترفض كاتيوشا زواج ديمتري رغم حبها له، وتتزوج سيمونسون. هذا القرار يُعد "بعثها" الذاتي، بينما يظل ديمتري في حالة بحث روحي.
الأبعاد الفلسفية والاجتماعية: تحليل تولستوي للنفس والمجتمع
النفس البشرية بين الحيواني والإنساني:
يصور تولستوي الإنسان ككائن ذو طبيعتين متصارعتين:
الطبيعة الحيوانية: الشهوات، الأنانية، التملك.
الطبيعة الروحية: الضمير، التضحية، المحبة.
ديمتري يجسد هذا الصراع في تحوله من "كائن حيواني" في شبابه إلى "كائن معنوي" في نضجه. يقول تولستوي على لسانه:
"الأشخاص يشبهون الأنهار... كل شخص يحمل في داخله بذرة جميع الخواص الإنسانية" .
النقد الاجتماعي: روسيا القيصرية كنموذج للفساد:
النظام القضائي: محاكمة هزلية، قضاة فاسدون، عقوبات قاسية.
الطبقات الاجتماعية: استغلال الأرستقراطية للفلاحين، وصمة العار على الضحايا.
الدعارة مؤسسة رسمية: تمنح الحكومة "بطاقات صفراء" للنساء، مما يجعل الاستغلال نظامًا مقننًا .
مفهوم "البعث" متعدد المستويات:
الديني: استعادة الإيمان بعد الضياع (ديمتري).
الأخلاقي: التكفير عن الذنب عبر التضحية.
الاجتماعي: تمرد الضحايا على مصيرهم (كاتيوشا).
الأسلوب الفني والسمات الأدبية
الميلودراما الاجتماعية: تجمع بين التشويق الروائي وعمق النقد الاجتماعي، مما أثر لاحقًا في كتاب مثل ستيفان زفايغ .
الواقعية النقدية: تصوير تفصيلي لسجون سيبيريا والمحاكم رغم أن تولستوي لم يعش هذه التجارب شخصيًا .
التقنيات السردية:
المنظور المزدوج: تناوب وجهة نظر ديمتري (النبيل) وكاتيوشا (الضحية).
الفلاش باك: كشف خلفية الجريمة الأخلاقية عبر استعادة الماضي.
النبرة النقدية الذاتية: عبر ديمتري، يراجع تولستوي أفكاره الإصلاحية في شيخوخته .
تقييم نقدي: لماذا "البعث" رغم ضعفها الفني؟
تولستوي نفسه وصف الرواية بأنها "سيئة ومشغولة قليلاً" في مذكراته، معتبرًا أن حلها الأخلاقي غير مقنع فنياً .
المفارقة التاريخية: رغم هذا النقد الذاتي، أصبحت الرواية إحدى العلامات الأدبية العالمية لسببين:
جرأتها في فضح النظام القيصري، مما ساهم في تحريض الرأي العام قبل الثورة الروسية.
عمقها الفلسفي في تحليل النفس البشرية، خاصة مقولة تولستوي:
"لكل إنسان صفات تميزه عن الآخرين... لكن هذا التوصيف للإنسان مخالف للمنطق" .
مقارنة مع روايات تولستوي الأخرى:
"الحرب والسلام": بطولات تاريخية.
"آنا كارنينا": دراما فردية.
"البعث": نقد مجتمعي شمولي.
الخاتمة: البعث كمرآة لتولستوي والعصر الحديث
رواية "البعث" هي تعبير عن أزمة ضمير مزدوجة: ضمير ديمتري الذي ينهض من سباته، وضمير تولستوي الذي يراجع مسيرته. رغم أن تولستوي اعتبرها غير كاملة فنياً، إلا أنها تبقى وثيقة أدبية فريدة ضد الظلم الاجتماعي، ودرساً في إمكانية "البعث" الأخلاقي حتى بعد السقوط. في عالمنا اليوم، حيث لا تزال أنظمة القمع والطبقيّة قائمة، تظل هذه الرواية مرشداً لأهمية المساءلة الذاتية قبل المجتمعية. كما كتب تولستوي في خلاصتها:
"البعث ليس حدثاً واحداً، بل رحلة لا تنتهي".
مراجع أساسية اعتمد عليها الملخص:
0 تعليقات