"حكم النبي محمد" لليو تولستوي
دفاعٌ عن الحقيقة في مواجهة التشويه
تولستوي والدفاع عن الإسلام في زمن التزييف
يُمثِّل كتاب "حكم النبي محمد" للروائي والفيلسوف الروسي العظيم ليو تولستوي (1828-1910) وثيقةً إنسانيةً فريدةً تجسِّد دفاعًا صريحًا عن الإسلام ونبيه الكريم ضد حملات التشويه والتلفيق التي قادتها جمعيات التبشير المسيحي في مدينة قازان الروسية خلال القرن التاسع عشر.
ألَّف تولستوي هذا العمل القصير لكن العميق كردٍّ على محاولات تلك الجمعيات تصوير الإسلام على غير حقيقته وإلصاق التهم الباطلة به
. يُبرز الكتاب رؤية تولستوي المتفتحة للأديان، وإيمانه بوحدة الحكمة الإلهية، حيث رأى في تعاليم النبي محمد ﷺ "حِكمًا عالية ومواعظ سامية تقود الإنسان إلى سواء السبيل، ولا تقلُّ في شيء عن تعاليم الديانة المسيحية" .
الخلفية التاريخية والاجتماعية لكتابة العمل
حملات التبشير في قازان: شهدت منطقة قازان (حيث درس تولستوي اللغات الشرقية في شبابه) نشاطًا مكثفًا لجمعيات تبشيرية حاولت تشويه صورة الإسلام لدى المجتمع الروسي، مستغلةً الجهل بالسنة النبوية الصحيحة .
تولستوي الشاهد المنصف: بحكم دراسته للغة العربية والتركية في جامعة قازان (1844) وتعرُّضه المباشر لخطاب تلك الجمعيات، شكَّلت معارضته لها دافعًا أساسيًا لتأليفه الكتاب .
السياق الفكري لتولستوي: جاء الكتاب في مرحلة تحوُّل فكري عميق عند المؤلف، حيث كان قد تبنَّى رؤيةً نقديةً للكنيسة الأرثوذكسية (حتى طُرد منها عام 1901)، واتجه نحو البحث عن "الدين الإنساني" الجامع بين الأديان .
الحِكَم النبوية كما اختارها تولستوي
اختار تولستوي مجموعةً من الأحاديث النبوية الشريفة التي ترجمها عن كتاب "أحاديث النبي محمد" لعبد الله السهروردي، واصفًا إياها بأنها "لا تخالف في شيء تعاليم الديانات الأخرى التي ترشد إلى الحق، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر" . وقد ركَّز في اختياراته على:
الأحاديث الأخلاقية: التي تؤسس لقيم العدل والرحمة والتعاون، مثل:
"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" .
الأحاديث الروحية: التي تدعو إلى الزهد في الدنيا وعبادة الله، مثل:
"لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت" .
الأحاديث الاجتماعية: التي تنظِّم العلاقات الإنسانية، كتلك التي تحثُّ على بر الوالدين وحسن الجوار.
رؤية تولستوي للنبي محمد ﷺ: المصلح العظيم
قدَّم تولستوي في كتابه تمجيدًا واضحًا لشخصية النبي ﷺ، معتبرًا إياه:
مؤسس ديانة عالمية: "مؤسس الديانة الإسلامية ورسولها، تلك الديانة التي يدين بها في جميع جهات الكرة الأرضية مئتا مليون نفس" (حسب إحصاءات ذلك الزمن) .
مصلحًا اجتماعيًّا أخلاقيًّا: "من عظام المصلحين الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة... يكفيه فخرًا أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق... ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية" .
حكيمًا إنسانيًّا: أشاد بتعاليمه التي تدعو إلى محبة الله ومحبة القريب، واصفًا إياها بأنها جوهر الإسلام الحقيقي .
نقاط محورية في دفاع تولستوي عن الإسلام
رفض تشويه صورة الجهاد: دحضَ فكرة أن الإسلام انتشر بالسيف، مؤكدًا أن انتشاره جاء نتيجة "طهارة سيرة المسلمين واستقامتهم ونزاهتهم" التي أدهشت المحيطين بهم .
التسامح الديني: أشاد بموقف الإسلام من أهل الكتاب، قائلاً: "من فضائل الدين الإسلامي أنه أوصى خيرًا بالمسيحيين واليهود... حتى أباح لأتباعه التزوج منهم مع الترخيص لهن بالبقاء على دينهن" .
الوحدة الجوهرية للأديان: أكد أن الأخلاق النبوية التي اختارها لا تتعارض مع المسيحية الحقيقية، بل هي تعبير عن حكمة إلهية واحدة .
آراء تولستوي الجريئة حول المرأة والحجاب
نقد الانحلال الغربي: هاجم الانحلال الأخلاقي في المجتمعات الأوروبية، واعتبر الزواج فيها "محض خداع" بعد أن فقد قدسيته .
تقدير الحجاب: رأى في حجاب المرأة المسلمة وعفتها قيمةً تحمي كرامتها وتصون الأسرة، مقارنةً بابتذال الموضة الأوروبية .
تماسك الأسرة المسلمة: أشاد بنظام الزواج في الإسلام الذي يحافظ على قدسيته كـ "سرٍّ ديني" في مقابل تحوُّله إلى "مقارنةٍ حيوانية" في الغرب .
علاقة تولستوي بالإسلام: بين الإعجاب والاختلاف
رغم إعجابه الشديد، لم يكن تولستوي مسلمًا بالمعنى العقائدي، بل كان له تصوُّرٌ خاصٌ مبنيٌّ على:
رفض فكرة النبوة والوحي: اعتبر النبي ﷺ "مصلحًا" دفعته "عوامل داخلية" لإصلاح قومه، لا رسولًا أوحي إليه .
نفي المعجزات: تماشيًا مع رفضه للمعجزات في المسيحية، أنكر المعجزات النبوية، وفسر الدعوة كنتيجة لتأمُّل محمد ﷺ في البراري .
رؤية شخصانية للدين: رأى أن جوهر الأديان يكمن في أخلاقها لا في عقائدها، مما جعله يختزل الإسلام في حِكَمه الأخلاقية .
المراسلات الفكرية: تولستوي والإمام محمد عبده
كشف الكتاب عن مراسلات نادرة بين تولستوي والإمام محمد عبده (مفتي الديار المصرية آنذاك)، حيث:
وجه الإمام عبده خطابًا لتولستوي يشكر فيه جهوده في الدفاع عن الإسلام ونبيه .
ناقش الاثنان أفكار "الدين الطبيعي" الذي يؤمن به تولستوي مقابل "الدين السماوي" الذي يدافع عنه عبده .
مثلت هذه المراسلات حوارًا مبكرًا بين الأديان في عصر الصدام الاستعماري .
ثناء الأدباء والمفكرين العرب على تولستوي
بعد وفاة تولستوي (1910)، نعاه كبار الأدباء العرب، ومن أبرز مظاهر التقدير:
قصيدة أحمد شوقي: التي رثا فيها "حكيم روسيا"، معتبرًا دفاعه عن النبي شرفًا خالدًا .
قصيدة حافظ إبراهيم: التي أشادت بمواقفه الجريئة وإنصافه للحقيقة .
مقالات المنفلوطي: التي سلطت الضوء على بعده الإنساني ونضاله من أجل العدالة .
تقييم نقدي للكتاب: الإنجازات والثغرات
الإيجابيات:
قيمة تاريخية: كوثيقة تثبت وجود أصوات منصفة في الغرب تجاه الإسلام .
جرأة فكرية: في فضح تزييف المبشرين ودحض الصور النمطية عن الإسلام .
تعريف بالإسلام: ساهم في تقديم صورةٍ أكثر إيجابيةٍ للمجتمع الروسي .
السلبيات:
أحاديث ضعيفة: تضمَّن الكتاب بعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة من اختيار السهروردي .
قصور في الفهم: تجاهل تولستوي جوانب عقدية أساسية (كالجهاد الشرعي) واختزل الإسلام في أخلاقياته .
تأثر بالتصوف: اختياراته ركَّزت على الجوانب الروحية على حساب التشريعات والعقائد .
تأثير الكتاب ومصيره
الترجمات المبكرة: تُرجم إلى العربية عام 1912 بعنوان "حكم النبي محمد" (نسبة للآية: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}) .
الطبعات الحديثة: أعادت مؤسسات مثل "هنداوي" (2012) و"المؤسسة المصرية الروسية" (2023) نشره .
الوعد غير المحقق: وعد تولستوي في خاتمة الكتاب بتأليف عملٍ أكبر بعنوان "محمد"، لكن وفاةَ حالَت دون ذلك .
نور الحكمة في مواجهة ظلام التشويه
يظل كتاب "حكم النبي محمد" شاهدًا على:
نبل الفكرة: دفاع فيلسوفٍ عظيمٍ عن الحقيقة ضد تشويه المبشرين.
قوة الأخلاق: انتصار الحكمة النبوية التي أذهلت تولستوي بتناغمها مع القيم الإنسانية.
حوار الحضارات: نموذج مبكر للحوار العقلاني بين الإسلام والغرب.
"لقد استولى حب السلطة على قلوب رجال الكنيسة كما هو مستولٍ على نفوس رجال الحكومات" – تولستوي .
رغم ثغراته المنهجية، يبقى هذا الكتاب تحفةً فكريةً تذكِّرنا بأن الحكمة ضالة المؤمن، وأن دفاع المنصفين عن الإسلام – حتى من غير أبنائه – ظاهرةٌ تتكرر عبر التاريخ، كما تجسَّدت حديثًا في كتابات كارين أرمسترونج وروجيه غارودي.
إنه إرث تولستوي الذي يضيء طريق الحوار بين الحضارات في عالمٍ ما زال يحتاج إلى صوت العقل والإنصاف
0 تعليقات