"منصة سترة الزعيم السادس" لهوينينغ
الأهمية التاريخية والدينية للسوترا
إن (Platform Sutra) أحد النصوص التأسيسية لمدرسة تشان (زن) البوذية في الصين، وهي الوحيدة ضمن المكنون البوذي الصيني التي تحمل لقب "سوترا" رغم عدم انتمائها للنصوص الهندية المترجمة من السنسكريتية.
يعود تاريخها إلى الفترة بين القرن الثامن والثالث عشر الميلادي، وتُنسب تعاليمها إلى هوينينغ (638–713م)، البطريرك السادس لتشان، الذي أسس المدرسة الجنوبية المروجة لفكرة التنوير المفاجئ (Sudden Enlightenment). تبلور النص عبر روايات تلاميذه، خاصة فاهاي، ليصير مرجعًا يدمج السرد التاريخي مع العمق الفلسفي، ويكشف عن تحولات البوذية في سياق صيني .
سيرة هوينينغ
نشأة البطريرك (الزعيم) السادس
وُلد هوينينغ في منطقة لينغنان (جنوب غرب الصين) لعائلة فقيرة، وعمل حطّابًا قبل أن يسمع آيات من "سوترا الماس" (Diamond Sutra) ويتجه شمالًا ليلتحق بدير البطريرك الخامس هونغرين. تروي السوترا قصة صعوده عندما طلب هونغرين من تلاميذه كتابة قصيدة تعبّر عن فهمهم "لطبيعة العقل". قدم شينشيو، كبير التلاميذ، قصيدةً مضمونها:
"الجسد شجرة بودي، والعقل مرآة لامعة،جاهد دائمًا لصقله، ولا تدع الغبار يتراكم".
لكن هوينينغ، الأمّي الذي كان يعمل في طحن الأرز، ردّ بقصيدة ثورية:
"بودي ليست شجرة، والمرآة لا حامل لها،في الأصل لا شيء موجود، فأين يلتصق الغبار؟".
أدرك هونغرين عمق فهم هوينينغ، فسلّمه رداء الخلافة سرًّا خوفًا من حسد الآخرين، مما أجبر هوينينغ على الهرب جنوبًا، حيث نشط في الدعوة لتعاليمه.
تطور النص ومخطوطاته
أقدم نسخة: مخطوطة دونهوانغ (اكتُشفت 1900 في كهوف موغاو) تعود لحوالي 830–860م، وتُظهر اختلافات جوهرية عن النسخ اللاحقة، مثل حذف فقرات كاملة تدعم شرعية سلالة هوينينغ.
نسخ مُنقحة: حرر الراهب تشيسونغ نسخة موسعة عام 1056، وأضاف تسونغباو فصولًا من كتاب "جينغده تشواندينغ لو" (سجلات نقل الشعلة) عام 1291، لتعزيز شرعية المدرسة الجنوبية.
البنية والمحتوى
تقسم السوترا في نسخها الكاملة إلى عشرة فصول، أهمها:
1. الأصول (الفصل الأول)
يسرد السيرة الذاتية لهوينينغ وصراع الخلافة، مؤكدًا على فكرة أن الاستنارة لا ترتبط بالمنصب أو المعرفة الأكاديمية، بل بالفطنة الروحية. ينتقد هنا التراتبية الدينية التقليدية.
2. الحكمة (براجنيا) والفصل الرابع (التأمل والحكمة)
يؤكد أن التأمل (Dhyana) والحكمة (Prajna) جوهر واحد:
"التأمل هو جوهر الحكمة، والحكمة هي وظيفة التأمل... لا ينفصلان كالضوء والمصباح" .ينقد هوينينغ الممارسات التي تفصل بينهما، مثل جلوس المتأملين ساعات دون فهم، معتبرًا ذلك قيدًا شكليًا يخنق العقل الأصيل.
3. الجلوس في التأمل (الفصل الخامس)
يهاجم المفهوم السطحي للتأمل:
"التأمل الحقيقي ليس تركيزًا على العقل أو نقاءً مصطنعًا... إنه أن تكون حرًّا في كل لحظة، غير عالق في الظواهر".يشير إلى أن النقاء الفطري للطبيعة البوذية لا يُكتسب بالجهد، بل يُكشف عنه عندما يتخلى المرء عن التعلق بالأفكار الزائفة.
4. التوبة (الفصل السادس)
يقدم طقسًا لـالتوبة بلا صورة (Formless Repentance)، حيث لا حاجة لتماثيل بوذا أو نصوص:
"التوبة الحقيقية هي تصحيح القلب لا طقوس الجسد... فخطايا الماضي كالندى الذي يتبخر تحت شمس الحكمة".
5. الفرصة (الفصل السابع) التدرج والدفعة (الفصل الثامن)
يحوي حوارات بين هوينينغ وتلاميذه، مثل سؤال راهب عن كيفية رؤية الطبيعة البوذية، فيجيب:
"كما ترى نجمة الصباح: لا تُمسك بها، لكنها تنير ظلامك".كما يوضح الفرق بين المدرستين الشمالية (التدرجية) والجنوبية (المفاجئة):| المعيار | المدرسة الشمالية (شينشيو) | المدرسة الجنوبية (هوينينغ) ||------------------|-----------------------------|------------------------------|| الاستنارة | تدريجية عبر مراحل | مفاجئة وفورية || التأمل | تركيز على الطقوس والشكليات | "لا-تفكير" وحرية العقل || الطبيعة البشرية| تحتاج تطهيرًا مستمرًا | فطرية نقية لا تشوبها شائبة |.
تعاليم هوينينغ
1. الطبيعة البوذية الفطرية (Buddha-Nature)
يجسدها مبدأ:
"جميع الكائنات تملك طبيعة بوذا... حجبها الوهم كسحابة تحجب الشمس".هنا يرفض هوينينغ فكرة أن التنوير يُمنح من خارج الذات، مؤكدًا أنه إدراك لما هو كامن أصلاً.
2. مبدأ "لا-تفكير" (No-Thought)
حالة وعي لا تتشبث بالظواهر:
"في اللا-تفكير، يعمل العقل حرًّا دون عوائق... كسحابة تمر في سماء صافية".هذا المبدأ يحرر المرء من ثنائية "الصحيح/الخاطئ"، ليختبر الوحدة الجوهرية للوجود.
3. النقاء الأصلي والتحرر من الصور
يرى أن التعلق بتماثيل بوذا أو النصوص المقدسة قد يصير عائقًا:
"من يبحث عن بوذا خارج قلبه، كمن يفر من موطئ قدميه ظنًّا أنه سيجد الجنة".التقوى الحقيقية تكمن في اختبار "اللاصورة" (Formlessness)، أي الجوهر غير المشروط للطبيعة الحقيقية.
4. الوحدة الجوهرية للوجود
يضيف أن التمييز بين "نقي" و"دنس" أو "روحي" و"دنيوي" وهمي، لأن الطبيعة الواحدة تشمل كل الظواهر:
"المستنير يمشي على الأرض بقدميه، لكن قلبه في مملكة الحق".
السوترا
شكوك حول نسبتها لهوينينغ
يبين الباحث فيليب يامبولسكي في ترجمته (المعتمدة على مخطوطة دونهوانغ) أن أجزاءً كُتبت بعد موت هوينينغ بقرون، مثل فصل "الإعلانات" الذي يسرد تبجيل الأباطرة له، مما يخدم شرعية المدرسة الجنوبية. كما أن قصة القصائد قد تكون مجازًا لتصوير الصراع المذهبي، إذ يشير جون مكراي إلى أن قصيدة شينشيو لا تدعو للتدرج، بل لـالمثابرة المستمرة كتعبير عن مثالية البوديساتفا.
الاختلافات بين المخطوطات
نسخة دونهوانغ: تركّز على الجوهر الفلسفي، وتتجنب الإضافات الأسطورية.
نسخة تسونغباو (1291): أضافت 30% من المحتوى، مثل حوارات مع أباطرة وحكايات خارقة لتعظيم مكانة هوينينغ.
التأثير والإرث
على تطور الزن البوذي
في الصين: أصبحت تعاليم التنوير المفاجئ أساسًا لمدارس مثل الينمن والكاو دونغ.
في اليابان: تبنتها مدرسة رينزاي زن التي روجت لـ"الكوان" (أسئلة تأملية) لكسر التمييز العقلي.
في كوريا: تأثرت مدرسة سون بمبدأ "النقاء الفطري".
تأثيرات تتجاوز الدين
في الفلسفة: ألهمت مفكري "الذين الجدد" مثل توماس ميرتون، الذين رأوا في "اللا-تفكير" تشابهًا مع فكرة "الوعي الصافي".
في الفنون: تجسّدت في مبادئ التبسيط والتلقائية في الرسم الصيني والياباني.
مرآة للطبيعة الأصلية
رغم الجدل التاريخي، يظل هذا عملًا ثوريًّا في تاريخ الأديان، فهي تدعو لتحرير الروحانيات من هيمنة النخب، وتؤكد أن الاستنارة متاحة للجميع: الفلاح والملك، الأمّي والعالم. كما أن نقدها للشكليات الطقسية يقدم رسالة راهنية في عصر تغمره الماديات. تعاليم هوينينغ، كما لخصها في وصيته:
"بحسن نيتكم... أضيئوا مصابيحكم، فلا يعرف أحد متى سينفد الزيت".تبقى هذه الكلمات دليلًا لمن يسعى لاكتشاف الشمس الكامنة وراء السحب
0 تعليقات