أسلاك الحرب: التكنولوجيا والصراع العالمي على السلطة لجيكوب هيلبرج
الإطار العام للحرب الرمادية
يقدم جيكوب هيلبرج في كتابه "أسلاك الحرب" رؤيةً ثاقبةً لتحولات الصراع الجيوسياسي في القرن الحادي والعشرين، مركزاً على مفهوم "الحرب الرمادية" (Gray War).
هذه الحرب لا تُخاض بالدبابات والصواريخ التقليدية، بل عبر التكنولوجيا اليومية مثل الهواتف الذكية وكابلات الإنترنت والذكاء الاصطناعي. في عالم مترابط اقتصاديًا، ترفع الحروب التقليدية تكلفتها إلى حد يجعلها غير مجدية، فتلجأ القوى العظمى إلى منطقة "رمادية" بين السلام والحرب المعلنة، تُستخدم فيها التكنولوجيا المدنية كأسلحة لتحقيق الهيمنة دون إعلان حرب صريح .
أهمية الكتاب والمرجعية المهنية للمؤلف
هيلبرج ليس أكاديمياً فحسب؛ بل شغل منصب المسؤول عن سياسة مكافحة التضليل في جوجل (2016–2020)، ما منحه خبرة عملية في مواجهة الهجمات الإلكترونية الروسية خلال انتخابات 2016 الأمريكية. وهو حالياً مستشار في مركز ستانفورد للجغرافيا السياسية والتكنولوجيا، مما يضفي مصداقية على تحليله .
طبيعة الحرب الرمادية وأسلحتها الجديدة
1.1 الصراع ثنائي الجبهات: البرمجيات vs العتاد الصلب
يرسم هيلبرج خريطةً لوجهي الصراع:
الجبهة الأمامية (البرمجيات): سيطرة على المحتوى الرقمي عبر منصات التواصل الاجتماعي والأخبار المزيفة، حيث بدأتها روسيا وانضمت إليها الصين وإيران. مثال: تدخل الوكالة الروسية لأبحاث الإنترنت (IRA) في الانتخابات الأمريكية عبر فيسبوك .
الجبهة الخلفية (العتاد الصلب): هيمنة على البنية التحتية للتكنولوجيا مثل كابلات الإنترنت البحرية، الأقمار الصناعية، وشبكات 5G، وتُعد الصين اللاعب الرئيس هنا عبر شركات مثل هواوي .
1.2 مفارقة "القابلية للاستخدام–التدمير"
يطرح هيلبرج مفهوماً جديداً: المفارقة بين فاعلية التكنولوجيا وتدميرها. الأسلحة النووية، رغم تدميرها الهائل، يصعب استخدامها عملياً. أما التكنولوجيا ثنائية الاستخدام (مدنية–عسكرية) مثل الطائرات المسيرة أو أنظمة التعرف على الوجوه، فهي:
فعالة: تسبب أضراراً جسيمة (مثل تعطيل شبكات الكهرباء).
قابلة للإنكار: يصعب إثبات هوية المهاجم، ما يقلل خطر الرد .
الفصل الثاني: استراتيجيات التشويش المعلوماتي وإعادة تعريف الرقابة
2.1 من الحجب إلى التشويه: تكتيكات العصر الرقمي
لم تعد الرقابة تقتصر على منع الوصول للمعلومات ("في أو خارج" السياج)، بل تحولت إلى تشويهها عبر:
الرشق المعلوماتي (Firehosing): ضخ كميات هائلة من المعلومات حول موضوع ما لغرق المحتوى المعارض، كما حدث في هجمات التضليل حول وباء كوفيد-19 .
غسيل المعلومات (Information Laundering): ترويج روايات هامشية عبر منصات موثوقة لتبدو "شرعية"، مثل نشر نظريات المؤامرة عبر حسابات مزيفة تنتقل إلى وسائل الإعلام التقليدية .
2.2 الذكاء الاصطناعي: سلاح المستقبل
يحذر الكاتب من أن التزييف العميق (Deepfakes) سيفاقم الأزمة، حيث ستصبح القدرة على تمييز الحقيقة من الخيال شبه مستحيلة .
الفصل الثالث: البنية التحتية التكنولوجية كساحة سيادة
3.1 هواوي: درع الصين الجيوسياسي
يكشف هيلبرج كيف حوّلت الصين شركة هواوي إلى أداة لهيمنتها:
دعم حكومي ضخم: 75 مليار دولار وفقاً لوكالة المخابرات المركزية .
الوصول الشامل: تقرير لشركة اتصالات هولندية (KPN) أظهر أن هواوي يمكنها التجسس على كل البيانات المارة عبر شبكاتها، بما في ذلك محادثات القادة السياسيين .
3.2 السيادة في عصر الألياف الضوئية
يخلص الكاتب إلى أن "السيادة لم تعد تُحدد بالقوات على الأرض، بل بالأسلاك تحت الأرض". من يتحكم في البنية التحتية الرقمية يستطيع:
التجسس على الأسرار.
شل قدرات الخصوم (مثل تعطيل شبكات الكهرباء).
ابتزاز النخب عبر جمع بياناتهم الشخصية .
الفصل الرابع: نزع التصنيع كنزع للسلاح
4.1 خطأ ستيف جوبز التاريخي
يروي هيلبرج حواراً بين باراك أوباما وستيف جوبز (2011)، حيث سأل الرئيس: "ما الذي يلزم لتصنيع آيفون في أمريكا؟"، فأجاب جوبز: "هذه الوظائف لن تعود" . هذا الاعتقاد، حسب هيلبرج، كان خطأً استراتيجياً:
الجائحة كإنذار: كشفت هشاشة سلاسل التوريد المعتمدة على الصين.
التصنيع = أمن قومي: القدرة على إنتاج الرقائق الإلكترونية، البطاريات، ومعدات الاتصالات تحدد القدرة على الصمود في الحرب الرمادية .
4.2 الصين: من مصنع العالم إلى ترسانته
تستغل الصين اعتماد العالم عليها في:
التجسس الصناعي: سرقة حقوق الملكية الفكرية.
الابتزاز الاقتصادي: حجب الإمدادات الحيوية (مثل المعادن النادرة) .
استراتيجيات المواجهة والدفاع عن الديمقراطية
5.1 إعادة التصنيع: أولوية أمنية
يدعو هيلبرج إلى:
إحياء الصناعات الاستراتيجية: أشباه الموصلات، الاتصالات، والطاقة النظيفة.
شراكة حكومية–خاصة: على نموذج "لحظة سبوتنك" (1957)، حين أطلقت أمريكا برنامج الفضاء رداً على التحدي السوفيتي .
5.2 تحالف الديمقراطيات التكنولوجي
مقترحات عملية لمواجهة المحور الصيني–الروسي:
بديل غربي لشبكات 5G: تطوير تقنيات بديلة لهواوي.
عقوبات رادعة: ضد منتهكي الفضاء الإلكتروني.
دعم التعليم التقني: تخريج جيل جديد من المهندسين وعلماء البيانات .
5.3 إصلاح منصات التكنولوجيا
يوصي بضرورة:
شفافية الخوارزميات: كشف آليات ترتيب المحتوى.
تحديث القوانين: مثل إصلاح "القسم 230" الأمريكي الذي يمنح المنصات حصانة من المسؤولية عن المحتوى .
هل هناك وقت؟
يختتم هيلبرج بتحذير مفاده أن "الوقت ينفد" أمام تفوق الصين في مجال التكنولوجيا، لكنه يرى أملاً في قدرة الديمقراطيات على التكيف إذا أدركت أن:
التكنولوجيا هي الجبهة الجديدة للصراع على القيم (الديمقراطية vs الاستبداد).
الشراكة بين وادي السيليكون وواشنطن ليست خياراً بل ضرورة وجودية .
"من يتحكم في الأسلاك يتحكم في العالم" — جيكوب هيلبرج
تقويم نقدي
الإيجابيات | السلبيات |
---|---|
تحليل واقعي من خبير عايش الأحداث | مبالغة في ثنائية (خير vs شر) |
أمثلة عملية مثل تقرير KPN | حلول عامة دون تفاصيل تقنية |
إنذار مبكر بمخاطر الذكاء الاصطناعي | تهويل سيطرة الصين المطلقة |
لماذا يجب أن تقرأ هذا الكتاب؟
لصانعي السياسات: فهم التداخل بين التكنولوجيا والجغرافيا السياسية.
للمواطن العادي: إدراك كيفية تأثير "الحرب الرمادية" على حياته اليومية (بياناته، قراراته، حريته).
للتكنولوجيين: رؤية الآثار الأخلاقية لابتكاراتهم .
في النهاية، الكتاب ليس مجرد تحليل؛ بل هو "ناقوس خطر" يدعونا لمواجهة أخطر حرب غير مرئية في عصرنا
0 تعليقات