"مجتمع الإرهاق" لبيونغ تشول هان
التحليل والنقد والحلول
التحول من مجتمع الانضباط إلى مجتمع الإنجاز
نهاية عصر فوكو: يوضح هان أن المجتمع المعاصر لم يعد يُدار عبر مؤسسات الانضباط التقليدية (السجون، المصانع، المستشفيات) التي وصفها ميشيل فوكو، بل تحول إلى "مجتمع الإنجاز" القائم على صالات الرياضة، المكاتب الحديثة، البنوك، ومراكز التسوق. هذا التحول يمثل نقلة من "الرعايا المطيعين" إلى "رعايا الإنجاز" الذين يديرون أنفسهم بأنفسهم .
من "يجب" إلى "يمكن": في المجتمع الانضباطي، كان المحرك الأساسي هو الفعل السلبي "لا يجب" (Prohibition)، بينما في مجتمع الإنجاز يحل محله الفعل الإيجابي "يمكن" (Can) الذي يخلق وهم القدرة اللامحدودة. شعار "نعم نستطيع" (Yes We Can) يجسد هذه الروح الإيجابية السامة التي تدفع الفرد إلى الاعتقاد بأن كل شيء ممكن .
الآثار النفسية: هذا التحول يولّد أمراضًا عصرية جديدة. فبينما أنتج المجتمع الانضباطي "المجانين والمجرمين" عبر القمع، ينتج مجتمع الإنجاز "المكتئبين والخاسرين" عبر الإفراط في الإيجابية والضغط الذاتي .
الإرهاق كنتاج للاستغلال الذاتي
المستغل والمستغلّ في جسد واحد: الفرد في مجتمع الإنجاز هو "رائد أعمال نفسه" (Entrepreneur of the Self). فهو لا يحتاج إلى رقابة خارجية لأنه يخضع نفسه لاستغلال ذاتي (Auto-exploitation) طوعي. هنا يذوب الفارق بين الجلاد والضحية، بين المستغل والمستغل .
كفاءة الاستغلال الذاتي: هذا النموذج أكثر كفاءة من الاستغلال الخارجي (Allo-exploitation) لأنه يرافقه "وهم الحرية". فالفرد يعتقد أنه حر بينما هو مقيد بسلاسل اختياره الذاتي. الرأسمالية المعاصرة تفضل هذا النموذج لأنه يضمن زيادة الإنتاجية دون حاجة إلى آليات قمع مرئية .
- الحرب الذاتية: الإرهاق (Burnout) ليس فشلًا في التحكم بالذات، بل هو نتيجة حرب يخوضها الفرد ضد نفسه. كما يقول هان: "الفرد المنهك لا يزال يركض في سباق يقوده ضد نفسه" .وهنا يستشهد هان بأسطورة بروميثيوس، حيث يصبح النسر الذي ينقر كبد البطل تمثيلًا للذات التي تلتهم نفسها .
تشظي الوعي وموت التأمل
الانتباه المفرط (Hyperattention): في عصر المعلومات، لم يعد الانتباه مركزًا ومتأملاً، بل أصبح "مفرطًا" – أي متشظيًا، سطحيًا، وقصير المدى. هان يشبه هذا الوضع بحيوان في البرية يأكل وهو يراقب الحيوانات المفترسة، لا يستطيع الغوص في التأمل بسبب تعدد المهام (Multitasking) .
تأثير التكنولوجيا: وسائل الإعلام الجديدة تذيب "الوجود من أجل الآخر" (Being-for-otherness) وتستبدله بعلاقات افتراضية تكرس النرجسية. هذا يؤدي إلى فقدان "الاختلاف الجذري" (Radical Otherness) الذي كان يوفر مقاومة تنشط الذات .
موت الثقافة: الثقافة الإنسانية العظيمة – بما فيها الفلسفة – نتاج "الانتباه التأملي العميق" (Deep Contemplative Attention). تشظي الوعي المعاصر يهدد هذا الإراث لأنه يحول التفكير إلى "مجرد حساب" (Mere Calculation) بدلاً من تأمل مبدع .
الإيجابية السامة والمرض العصابي
الاكتئاب كمرض عصري: الاكتئاب ليس نتاج القمع، بل هو "مرض مجتمع يعاني من الإيجابية المفرطة". شكوى المكتئب "لا شيء ممكن" لا تظهر إلا في مجتمع يؤمن أن "لا شيء مستحيل".
هذا التناقض يولد الإرهاق الوجودي.
أمراض العصر العصابية: هان يحدد أربعة أمراض تميز القرن الحادي والعشرين:
فقدان المشاعر السلبية: المشاعر مثل الحزن، الخوف، والغضب – والتي كانت محركات للتغيير – تُقمع اليوم. هان يرى أن "الغضب" (Rage) هو قدرة على قطع الوضع القائم وبدء وضع جديد، لكنه يستبدل اليوم بـ"الإزعاج" (Annoyance) السطحي الذي لا يغير شيئًا .
الحلول الفلسفية: الملل، السبت، والتأمل
إعادة اكتشاف الملل العميق: الملل ليس عدوًا، بل هو "ذروة الاسترخاء الذهني" (Peak of Mental Relaxation). الملل العميق (Profound Boredom) هو شرط ضروري للإبداع والفلسفة، لأنه يخلق مساحة للتفكير خارج ضغوط الإنجاز .
ثقافة "نحن المتعبين": هان يميز بين نوعين من التعب:
"تعب الأنا" (I-Tiredness): تعب انعزالي مدمر ("أنا متعب منك").
"تعب النحن" (We-Tiredness): تعب جماعي يولد الدهشة ("أنا متعب معك") .
السبت نموذجًا: في التقليد اليهودي، السبت (Sabbath) هو فضاء زمني مخصص "للتعب الجماعي". إنه نموذج لمقاومة ثقافة الإنتاج الدائم، حيث يتوقف العالم عن العمل لاستعادة الروح الجماعية .
إنتقادات وجهت لأفكار الكتاب
القوة والضعف في التحليل:
القوة: تشخيص دقيق لآليات الاستغلال الذاتي في الرأسمالية المتأخرة، وربط غير مسبوق بين الإيجابية السامة والمرض النفسي.
الضعف: إغفال أن ليس كل الأفراد في "مجتمع الإنجاز" هم "رعاة إنجاز". كثيرون يعيشون على الهامش بلا حافز للإنجاز .
هل الحلول واقعية؟: دعوة هان لـ"التأمل" و"الملل" تبدو نخبوية في عالم يعتمد على العمل للبقاء. لكنها تقدم إطارًا لمقاومة فردية وجماعية ممكنة، مثل تحديد حدود العمل وإعادة بناء العلاقات غير الإنتاجية .
العلاقة مع مفكرين آخرين: هان ينتقد فرويد لأن التحليل النفسي مبني على "سلبية القمع" التي لم تعد مهيمنة. كما ينتقد هانا أرندت لأن تأييدها "الحياة النشطة" (Vita Activa) يكرس هيستيريا العمل الحديثة .
تحولات المجتمع حسب هان
المجتمع الانضباطي مجتمع الإنجاز الفضاءات: سجون، مصانع، ثكنات الفضاءات: صالات رياضة، بنوك، مراكز تسوق الفاعل: رعايا طاعة الفاعل: رعايا إنجاز المحرك: "لا يجب" (Prohibition) المحرك: "يمكن" (Can) الأمراض: جنون، جريمة الأمراض: اكتئاب، إرهاق الاستغلال: خارجي (Allo-exploitation) الاستغلال: ذاتي (Auto-exploitation) التركيز: انضباط خارجي التركيز: ضغط داخلي
ما بعد مجتمع الإرهاق
رؤية هان قاتمة لكنها ضرورية لفهم عصرنا. حلّه لا يكمن في إصلاح النظام، بل في قلب قيمه: التحول من "رائد الأعمال" إلى "الشاعر" في حياتنا، كما يقترح باستعارة من نيتشه .
هذا يتطلب:
مقاومة ثقافة "نعم نستطيع": عبر تقبل الحدود الإنسانية.
تأهيل السلبية: إعادة اكتشاف قيمة المشاعر "السيئة" مثل الحزن والغضب كمحركات للتغيير.
بناء جزر التأمل: خلق مساحات زمنية ومكانية خالية من الإنتاجية.
كما يحذرنا هان: "النشاط المفرط هو شكل سلبي من الفعل" .
فالإرهاق ليس مشكلة فردية، بل هو مرآة لمجرف أزمة وجودية جماعية. كتاب "مجتمع الإرهاق" ليس تشخيصًا فقط، بل هو دعوة لثورة هادئة تبدأ بإطفاء هاتفك، والجلوس مع نفسك، والاستسلام لـ"ملل مبدع" قد ينقذ روحك
0 تعليقات