ريتشارد الثاني لوليام شكسبير
السياق التاريخي والأدبي
تعد مسرحية ريتشارد الثاني (كتبت حوالي عام 1595) أول أجزاء الرباعية التاريخية الثانية لشكسبير، التي تشمل أيضاً مسرحيات "هنري الرابع الجزء الأول"، "هنري الرابع الجزء الثاني"، و"هنري الخامس" .
تعالج المسرحلة قضية خلع الملك ريتشارد الثاني (1367-1400) - أول ملك إنجليزي يُخلع عن العرش في التاريخ الإنجليزي - وتُظهر ببراعة انهيار مبدأ الحق الإلهي للملوك في القرن الرابع عشر، وصعود سلطة البرلمان، والتحولات الفكرية التي زلزلت أركان المجتمع القروسطي .
تعكس المسرحية صراعات العصر الإليزابيثي حول شرعية الحكم والطاعة، وقد عانت من الرقابة في عهد الملكة إليزابيث الأولى لخطورتها السياسية.
الشخصيات الرئيسية وتحليلها
ريتشارد الثاني:
الملك الشاب الذي يجسد نموذج الحاكم المتغطرس المنفصل عن شعبه. يفتقر إلى الحكمة السياسية، ويحيط نفسه بمستشارين فاسدين (مثل بوشي وغرين)، ويسرف في الإنفاق على حاشيته، ويرفع الضرائب لتمويل حروبه في أيرلندا.
يتحول خلال المسرحية من شخصية متغطرسة إلى شخصية تأملية شاعرية بعد خلعه، فيقدم أحد أعمق تصويرات سيكولوجية الملك المهزوم في الأدب العالمي.
هنري بولينجبروك (لاحقاً هنري الرابع):
ابن عم ريتشارد وخصمه السياسي، يجسد البراغماتية السياسية والقدرة على كسب تأييد الشعب والنبلاء.
يبدأ منفيّاً ثم يعود على رأس جيش للإطاحة بريتشارد، لكن صعوده للسلطة يرافقه ثقل الذنب وانتهاك الحق الإلهي.
جون جاونت:
عم ريتشارد وأب بولينجبروك، يمثل حكمة الجيل القديم وضمير الأمة. خطبته الشهيرة عن "إنجلترا الأخرى عدن" (الفصل الثاني، المشهد الأول) تُعدّ من أشهر خطب شكسبير الوطنية، حيث ينتقد فساد الحكم ويدافع عن الوطن كمقدس.
الشخصيات الرئيسية:
| الشخصية | الدور الدرامي | الرمزية التاريخية | مصيرها |
|---|---|---|---|
| ريتشارد الثاني | الملك المخلوع | انهيار الحق الإلهي | اغتيال في السجن |
| هنري بولينجبروك | المغتصب الطموح | صعود البراغماتية السياسية | التتويج ملكاً |
| جون جاونت | الحكيم العجوز | صوت الضمير الوطني | الموت غماً وحزناً |
الحبكة الدرامية: تفصيل المشاهد الرئيسية
الفصل الأول: بذور الصراع (المشاهد 1-4)
المبارزة المعلقة: يستدعي ريتشارد بولينجبروك وتوماس موبراي للمثول أمامه بعد اتهامات بالخيانة. يقرر نفيهما (بولينجبروك لمدة 6 سنوات وموبراي مدى الحياة) بدلاً من السماح بمبارزة.
مصادرة الميراث: عند موت جون جاونت، يصادر ريتشارد أملاكه وممتلكاته التي كان من المفترض أن يرثها بولينجبروك المنفي، مقدماً الذريعة الحاسمة لتمرد الأخير.
الفصل الثاني: التمرد وصعود بولينجبروك (المشاهد 1-4)
خطبة جاونت المحتضرة: في مشهد درامي يوبخ فيه الملك: "أنت مستأجر هذه الأرض (...) لا مالكها الشرعي"، متهماً إياه بتدمير إنجلترا.
غزو بولينجبروك: يستغل هنري غياب ريتشارد في حملته العسكرية بأيرلندا، فيغزو الشمال الإنجليزي بجيش صغير، لكن انضمام النبلاء والسكان لقضيته يحولها إلى حركة جماهيرية.
الفصل الثالث: سقوط ريتشارد (المشاهد 1-4)
العودة الكارثية: يعود ريتشارد من أيرلندا ليجد نفسه بلا حلفاء. مشهده مع الأرض الإنجليزي ("أيتها الأرض، أبرزي شياطينك") يُظهر تعلقه الرومانسي بالملكية كعلاقة مقدسة.
التسليم الدراماتيكي: في مشهد قلعة فلينت، يسلم ريتشارد التاج بعد حوار رمزي مع المرآة، يمزق خلالها صورته الذاتية كملك إلهي.
الفصل الرابع: الخلع والعواقب (المشاهد 1-5)
برلمان بولينجبروك: يجبر ريتشارد على الاعتراف علناً بجرائمه (التي بعضها ملفق). مشهد تمزيق وثائق الشرعية يرمز إلى انهيار النظام القديم.
السجن والاغتيال: في زنزانته بقصر بومفرت، يتحول ريتشارد إلى فيلسوف شاعر. اغتياله على يد إكستون (الذي يعتقد خطأ أنه ينفذ رغبة هنري) يُنهي حياته بمفارقة تراجيدية.
التحليل النقدي والمواضيع الرئيسية
1. شرعية الحكم والثورة
الصراع بين الحق الإلهي والكفاءة: يطرح شكسبير إشكالية مفادها: هل يُبرر ظلم الملك بالحق الإلهي؟ ريتشارد يقول: "التاج المقدس يحيط رأسي" بينما بولينجبروك يمثل السلطة الشعبية الناشئة.
الخلع كزلزال سياسي: يصور شكسبير خلع الملك كجريمة ضد النظام الكوني، حيث يقول أسقف كارلايل في تحذير نبوي: "الدم الإنجليزي سيروي الأرض (...) إذا نُصّب ملكٌ باختيار البشر!".
2. اللغة والسلطة
ريتشارد الشاعر: يمتلك ريتشارد لغة شعرية استعارية ("أنا نجم ساقط") بينما خطاب بولينجبروك مباشر وعملي، مما يعكس انفصال الملك عن الواقع.
الطقوس كأداة سياسية: مشاهد التتويج والخلع مليئة بالرموز (التاج، المرآة، الوثائق) التي تُجرد السلطة من قدسيتها وتكشفها كأداء بشري.
3. الهوية والأزمة الوجودية
أزمة الهوية بعد الخلع: أشهر حواريات ريتشارد في السجن: "أنا لا أمتلك اسماً (...) أي اسم يليق بي؟" تظهر تفكك الذات مع فقدان الدور الملكي.
الملكية كمسرح: استعارة المسرح تطارد ريتشارد ("فلتكن طقوس التتويج درامية")، مذكرة بأن الحكم أداء اجتماعي.
المواضيع الرئيسية:
| الموضوع | تجسيده في المسرحية | رمز رئيسي | اقتباس توضيحي |
|---|---|---|---|
| شرعية الحكم | صراع ريتشارد وبولينجبروك | التاج | "أيها التاج المعدني، أنت قبضة الموت" |
| اللغة والسلطة | خطابات ريتشارد الشعرية | المرآة | "حطمت المرآة؟ الصورة الجميلة التي كانت لي" |
| الخيانة والضمير | تردد النبلاء بين الولائين | الأرض المصادرة | "هذه الأرض (...) أصبحت مستعمرة" |
السياق التاريخي الفعلي
ريتشارد التاريخي: حكم إنجلترا (1377-1399)، تولى العرش طفلاً. اشتهر بحبه للفنون لكنه أضعف البلاد بصراعاته مع النبلاء وسياسته الضريبية. خلعه بولينجبروك (ابن عمه) الذي أصبح هنري الرابع، ومات ريتشارد في السجن عام 1400.
مصادر شكسبير: اعتمد على "حوليات إنجلترا، أسكتلندا، وأيرلندا" لرفائيل هولنشد (1587)، لكنه عدل الأحداث لخدمة الدراما، مبالغاً في سلبية ريتشارد.
مكانة المسرحية في أدب شكسبير
الرباعية التاريخية: تؤسس لصراع الوردة الحمراء (لانكاستر) والوردة البيضاء (يورك) الذي يتطور في مسرحيات تالية. مشهد اغتيال ريتشارد يلقي ظلالاً على حكم هنري الرابع.
التجريب الشعري: أول مسرحية لشكسبير تكتب كاملة بأبيات خماسية التفاعيل (غير مقفاة)، مما يعمق النبرة التراجيدية. حوارات ريتشارد في السجن تُعد من أعمق الشعر الشكسبيري.
المقارنة مع ريتشارد الثالث: بينما ريتشارد الثالث شرير باختياره، ريتشارد الثاني ضحية لضعفه وطموحات الآخرين. الأولى تراجيديا شر مطلق، الثانية تراجيديا ضياع الشرعية.
الجوانب الفنية والمسرحية
البنية الدرامية
غياب المعارك: تختلف عن مسرحيات شكسبير التاريخية الأخرى بخلوها من مشاهد المعارك، مركزة على الصراع النفسي والكلمات.
التوازن بين المشاهد العامة والخاصة: مشاهد البلاط المتكلفة تقابلها حوارات ريتشارد التأملية في السجن، مبرزة تناقض الشخصية.
الرمزية المركزية
التاج: يتحول من رمز مقدس إلى غنيمة سياسية. مشهد تبادله بين ريتشارد وبولينجبروك يجسد انتقال السلطة كسرقة لا شرعية.
الشجرة المقطوعة: تشبيه ريتشارد لنفسه بشجرة مقطوعة الرأس ("أغصاني مقطوعة، جذوعي مذبوح") يرمز لانفصاله عن جذور الشرعية.
الترجمات العربية والدراسات النقدية
ترجمة د. محمد عناني (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998): أشهر ترجمة عربية، قدمت تحليلاً للمسرحية في ضوء "التاريخية الجديدة" و"المادية الثقافية"، مشيرة إلى توظيف شكسبير للتاريخ لتعليق على صراعات العصر الإليزابيثي.
مشكلة الرقابة: منعت السلطات عرض مشهد الخلع في عهد الملكة إليزابيث، إذ كان يُخشى تحريض الجمهور ضد النظام. هذا يُظهر خطورة المسرحية السياسية.
تفسيرات حديثة: قراءات ما بعد استعمارية تربط بين مصادرة ريتشارد لأراضي بولينجبروك وممارسات الإمبراطورية البريطانية اللاحقة.
الأثر الثقافي والمرجعية
مسرحية "ريتشارد الثاني" ليست مجرد سرد تاريخي، بل استكشاف للسلطة وهشاشة الشرعية.
شخصية ريتشارد تطرح أسئلة جوهرية: هل الملكية وظيفة أم قدَر؟ هل الخلع جريمة أم تصحيح؟ في عالمنا المعاصر حيث تتهاوى الأنظمة، تظل هذه المسرحية مرآة لصراعات السلطة.
كما لاحظ الناقد هارولد بلوم: "ريتشارد شكسبيري أكثر من هاملت؛ فهو يخلق دراما من سقوط الذات الإلهية المزعومة".
هذا العمل يؤكد أن شكسبير لم يكن مجرد كاتب، بل فيلسوف سياسي سبق عصره.
.jpg)
0 تعليقات