كتاب عن السببية - العلم الجديد للسبب والنتيجة

السببية - العلم الجديد للسبب والنتيجة

 

ملخص موسّع لكتاب: The Book of Why: The New Science of Cause and Effect

 ثورة السببية في العِلم

يُعد هذا الكتاب رحلةً فكريةً تُغيّر طريقة فهمنا للعالم. يناقش المؤلفان بأنّ الإحصاء التقليدي ظلّ لعقودٍ حبيسًا لفكرة "الارتباط لا يعني السببية"، مما أعاق تقدّم العلوم.

 لكنّ "ثورة السببية" التي يقودها جوديا بيرل (عالم الكمبيوتر الحائز على جائزة تورنغ) أعادت بناء الأسس العلمية لفهم العلاقات السببية، مستندةً إلى أدوات رياضية جديدة مثل الرسوم البيانية السببية وحساب التدخلات.


إشكالية السببية في الإحصاء التقليدي

الانفصال التاريخي بين الإحصاء والسببية

  • كارل بيرسون (مؤسس الإحصاء الحديث): رفض فكرة السببية باعتبارها "غير علمية"، واعتبر أنّ الارتباط الكامل هو أقصى ما يمكن إثباته. مثَّل هذا الفكر عائقًا لعقود، خاصة في مجالات مثل الطب والعلوم الاجتماعية.

  • سيوال رايت (عالم الوراثة): طوّر المسارات السببية (Path Analysis) في عشرينيات القرن الماضي لدراسة توريث الصفات، لكنّ عمله قوبل بالتجاهل من الإحصائيين التقليديين.

التحوّل في فكر بيرل

كمتخصص في الذكاء الاصطناعي، لاحظ بيرل محدودية أنظمة التعلم الآلي القائمة على الارتباط وحسب (مثل شبكات بايز). فحتى التسعينيات، كانت الآلات عاجزة عن فهم أسئلة بسيطة مثل:

"ماذا لو غيّرنا X؟ هل سيتغير Y؟"
هذا الإدراك دفعه لتطوير نظرية سببية رياضية تُمكّن الآلات من محاكاة التفكير البشري.


سلم السببية: مستويات الفهم السببي

يقدم بيرل مفهوم "سلم السببية" كإطار هرمي يصف تطور الفكر السببي عبر ثلاثة مستويات:

المستوى 1: الملاحظة (Association)

  • السؤال النموذجي: "هل يرتبط X بـ Y؟"

  • الأدوات: الارتباط، الانحدار، الذكاء الاصطناعي الحالي (التعلم العميق).

  • المحدودية: لا يُميّز بين السبب والنتيجة.

    • مثال: عندما يصيح الديك، تشرق الشمس. لكنّ الصياح لا يسبب الشروق!.

المستوى 2: التدخل (Intervention)

  • السؤال النموذجي: "إذا غيّرنا X، كيف يتأثر Y؟"

  • الأدوات: التجارب العشوائية (RCTs)، حساب do-operator (مثل: 
    P(Ydo(X))

    • مثال: "هل التدخين يسبب سرطان الرئة؟" هنا، do(تدخين) ≠ رؤية مدخّن، لأنّ التدخل يُلغي تأثير المُربِكات (Confounders) مثل الجينات.

المستوى 3: التخيل المضاد للواقع (Counterfactuals)

  • السؤال النموذجي: "لو لم يحدث X، هل كان Y سيقع؟"

  • التطبيقات: المسؤولية القانونية، الشعور بالندم، الذكاء البشري.

    • مثال: "لو لم يُطلق أوزوالد النار، هل كان كينيدي سيعيش؟".

الخلاصة: البشر فقط هم من يصلون للمستوى الثالث، بينما ظلت الآلات حتى 2023 عالقة بين المستويين الأول و"ثلاثة أرباع الثاني".


 الأدوات الرياضية للسببية

1. الرسوم البيانية السببية (Causal Diagrams)

هي تمثيل بصري للعلاقات السببية بين المتغيرات، يُساعد في تحديد ثلاثة أنماط أساسية:

  • السلسلة (Chain): X → Y → Z

    • مثال: النار ← الدخان ← إنذار الحريق.

  • الشوكة (Fork): X ← Y → Z

    • مثال: حجم الحذاء ← عمر الطفل → القدرة على القراءة (ارتباط لا يعكس سببية).

  • المصطدم (Collider): X → Y ← Z

    • مثال: النجاح ← الموهبة + الجمال (لا ارتباط بين الموهبة والجمال حتى نجمع بيانات الناجحين فقط).

2. عامل "التدخل" (do-operator)

الفرق الجوهري بين الملاحظة والتدخل:

  • P(YX)

  • P(Ydo(X))

    • مثال البارومتر:

      • P(عاصفةانخفاض البارومتر)

      • P(عاصفةdo(انخفاضالبارومتر))=P(عاصفة)

3. معيار الباب الأمامي (Front-Door Criterion)

حل لمشكلة المُربِكات عندما لا نستطيع قياسها:

  • مثال التدخين:

    • المُشكلة: لا نعرف كل الجينات المربِكة بين التدخين والسرطان.

    • الحل: قياس "القطران في الرئتين" (وسيط) وتقدير تأثيره على السرطان، ثم ربط التدخين بالقطران.


دراسات حالة تاريخية

1. معركة التدخين وسرطان الرئة (1950–1960)

  • رونالد فيشر (عالم إحصائي): جادل أنّ الارتباط لا يثبت السببية، واقترح أنّ "جينات مشتركة" تسبب الرغبة في التدخين والسرطان معًا.

  • جيروم كورنفيلد: استخدم معادلات سببية لإثبات أنَّ خطر السرطان بين المدخّنين أعلى بـ 9–10 مرات، حتّى بعد ضبط المُربِكات.

2. اكتشاف جون سنو لسبب الكوليرا (1854)

  • الفرضية: مياه الصرف الصحي تسبب المرض (لا مجرد "هواء ملوث").

  • الدليل: قارن بين مناطق لندن المزوّدة بشركتي مياه (إحداهما ملوثة). استخدم متغيرات أداتية (Instrumental Variables) لإثبات السببية دون تجارب عشوائية.


مفارقات سببية وحلولها

يُبيّن الكتاب كيف تحل الأدوات السببية مفارقات إحصائية شهيرة


المفارقة الوصف الحل السببي
مفارقة سيمبسون اتجاه الارتباط ينعكس عند تجميع البيانات (مثل: دواء يبدو ضارًا لكل مجموعة عمرية لكنه مفيد عمومًا). السبب: متغير خفي (مثل شدة المرض). الرسم البياني يحدد متى "نضبط" على متغير أو لا.
مفارقة بيركسون ارتباط يظهر فقط عند انتقاء عينة محددة (مثل: الجمال والذكاء يرتبطان سلبًا بين الممثلين الناجحين!). سببها "اصطدام" متغيرين في نقطة (النجاح). الحل: عدم ضبط المصطدم.

تطبيقات في الذكاء الاصطناعي والفلسفة

1. الذكاء الاصطناعي السببي (Causal AI)

  • الشبكات البايزية: تتعلم الارتباطات لكنها لا تفهم "ماذا لو؟".

  • الشبكات السببية: تدمج معرفة سببية بشرية، مما يُعطيها:

    • مرونة في مواجهة تغيير البيئة.

    • قدرة على التخطيط والتجريب الذهني.

تحديث 2023: بيرل يرفع تقديره لقدرة الذكاء الاصطناعي إلى "المستوى 1.75" بفضل النماذج اللغوية (مثل ChatGPT) التي تتعلم السببية من النصوص البشرية.

2. إشكالية الإرادة الحرة

يطرح بيرل رؤيةً توفيقية:

  • العالم المادي: تحكمه قوانين سببّية صارمة.

  • البشر: يستخدمون "التفكير المضاد للواقع" لاختبار خيارات وهمية، مما يخلق شعورًا بالإرادة.


 انتقادات وتقييم الكتاب

الإيجابيات:

  • تبسيط معادلات معقدة: مثل شرح 
    do(x)

  • تأثير واسع: غيّر طريقة تدريس الإحصاء في جامعات مثل هارفارد وMIT.

الانتقادات:

  • التقليل من إسهامات آخرين: كالعالم كلارك جليموز (نظريات شبيهة للسببية في السبعينيات).

  • صعوبة بعض الفصول: كالحديث عن "الجبر السببي" (Causal Calculus).


الخاتمة: لماذا يجب أن نهتم بالسببية؟

يختتما بأربع رسائل جوهرية:

  1. البيانات ليست كافية: "أنت أذكى من بياناتك" — فبدون نماذج سببية، البيانات عمياء.

  2. الافتراضات ضرورية: العلم يتطلب افتراضات سببية واضحة (وإن كانت غير مؤكدة)، كي نتجاوز الارتباط.

  3. الآلات تحتاج السببية: لتجاوز حدودها الحالية، عليها أن تتعلم "التدخل" و"التخيل".

  4. الإنسانية والسببية: قدرتنا على طرح "لماذا؟" و"ماذا لو؟" هي ما يجعلنا بشرًا.

"العالم ليس مجرد حقائق، بل حققات مُلتحمة بعلاقات سببّية. هذه العلاقات هي جوهر المعرفة البشرية" — جوديا بيرل.


مراجع للتوسع

إرسال تعليق

0 تعليقات