"في السينما" ليحيى حقي: رؤية نقدية تأسيسية
المؤلف: يحيى حقي - سيرة ذاتية موجزة
يُعد يحيى حقي (1905-1992) أحد رواد الأدب العربي الحديث، وُلد في حي السيدة زينب بالقاهرة لأسرة ذات جذور تركية.
تخرج في مدرسة الحقوق السلطانية عام 1925، وعمل في النيابة والمحاماة قبل التحاقه بالسلك الدبلوماسي حيث خدم في جدة وإسطنبول وروما.
هذه التجربة الثرية عرّفته على الثقافات العالمية والسينما الدولية. بعد إقالته من الخارجية عام 1954 بسبب زواجه من الفرنسية جان ميري جيهو، تولى مناصب ثقافية رفيعة منها:
مدير عام لمصلحة الفنون (1955-1958)
رئيس تحرير مجلة "المجلة" (1962-1970)
حصل على جوائز مرموقة مثل جائزة الدولة التقديرية (1969)، وسام فارس من فرنسا (1983)، وجائزة الملك فيصل العالمية (1990).
الكتاب: الإطار العام والمنهجية النقدية
"في السينما" (252 صفحة) هو تجميع لمقالات نقدية كُتبت على فترات متباعدة، تُعالج السينما كفن شامل يتقاطع مع الأدب والموسيقى والتشكيل. الميزات الأساسية:
الرؤية التكاملية: يعتبر حقي السينما "فنًا جامعًا" يتقاطع مع الأدب والموسيقى والتصوير، مما يستدعي نقده عبر منظور متعدد التخصصات.
الواقعية النقدية: ينطلق من ارتباط السينما بالواقع الاجتماعي، مع رفضه للأفلام الهروبية التي تكرس الأوهام.
المنهج التحليلي: يجمع بين التحليل الفني (الإضاءة، المونتاج، التمثيل) والتحليل الاجتماعي للمضامين.
اللغة الأدبية: يتميز أسلوبه بالرشاقة والسرد القصصي حتى في النقد، مما يجعل النصوص ذات قيمة أدبية مستقلة.
المحاور الرئيسية في الكتاب:
المحور | القضايا المطروحة | أمثلة من الكتاب |
---|---|---|
السينما والفن | علاقة السينما بالمسرح والأدب، معايير الجودة الفنية | تحليل فيلم "قنديل أم هاشم" |
الصناعة السينمائية | مشاكل الإنتاج، دور الدولة، العلاقة مع الجمهور | نقد احتكار المنتجين |
النقد والجمهور | تربية الذوق الفني، مواجهة الأفلام التجارية السطحية | مقال "السينما كمعلم أخلاقي" |
السينما العالمية | تأثير السينما الأوروبية والأمريكية، أهمية المهرجانات | تقارير عن مهرجان كان السينمائي |
الأسس والمفاهيم
1. السينما كفن تعبيري
يرى حقي أن السينما ليست ترفيهًا فحسب، بل "نافذة إلى العمق الإنساني" قادرة على:
كشف التناقضات الاجتماعية (الصراع بين العلم والخرافة في "قنديل أم هاشم").
توثيق التحولات التاريخية (كما في فيلم "البوسطجي" الذي يوثق حياة الريفيين).
تقديم الجمال البصري عبر "لغة الصورة التي تتجاوز حواجز الكلام".
2. معايير التقييم الفني
يحدد حقي معاييرَ دقيقةً لتقييم الأفلام:
الانسجام التقني: توافق الإضاءة والموسيقى مع السياق الدرامي.
مصداقية التمثيل: يمدح شكري سرحان في "البوسطجي" لتمثيله "الحائر بين القديم والجديد".
العمق الإنساني: رفضه للأفلام التي تُقدّم شخصيات أحادية البعد.
3. نقد الصناعة السينمائية
يكشف الكتاب عن أزمات الهيكل السينمائي المصري:
هيمنة المنتجين التجاريين الذين يفضلون "الأفلام الهروبية" على الأعمال الجادة.
ضعف التمويل الحكومي مقارنة بدول مثل إيطاليا وفرنسا.
غياب سياسة توزيع عادلة تعيق وصول الأفلام الجادة للجمهور.
دراسات حالة: تحليل الأفلام
1. "قنديل أم هاشم" (1968)
الموضوع: صراع بين العلم (الطب الغربي) والموروث الشعبي (زيت قنديل المسجد).
تحليل حقي: يرى أن الفيلم نجح في توظيف الإضاءة للتعبير عن "الانقسام الداخلي" للبطل (شكري سرحان)، خاصة في مشهد تحطيم القنديل حيث تتحول الإضاءة إلى "ظلال متصارعة".
الجانب الرمزي: القنديل يمثل "الهوية المأزومة بين التراث والحداثة".
2. "البوسطجي" (1968)
القصة الأصلية: من مجموعة "دماء وطين" التي تصور حياة موظف بريد في صعيد مصر.
التحول السينمائي: يشيد حقي بقدرة المخرج حسين كمال على تحويل الحبكة الثنائية (صراع البطل مع العمدة + قصة حب خليل وجميلة) إلى "نسيج درامي متماسك".
النقد الاجتماعي: الفيلم يكشف "استغلال السلطة" عبر مشهد تفتيش الرسائل.
3. أفلام عالمية
يحلل حقي أفلامًا أوروبية مثل:
"الدراجة المسروقة" (دي سيكا): كمثال على الواقعية الجديدة التي "تخلق الفن من لحم الحياة اليومية".
"مواطن كين" (أورسون ويلز): يبرز فيه استخدام الزوايا البصرية "كمرايا تشوه صورة السلطة".
علاقة إشكالية
يخصص حقي فصولاً لعلاقة الأدب بالسينما، مركزًا على:
مخاطر التحويل: تحذيره من "الخيانة الفنية" عند إخضاع النص الأدبي لضرورات السينما التجارية، كما حدث في بعض أفلام يوسف إدريس.
السيناريو كجسر: يعتبر كتابة السيناريو "فنًا وسيطًا" يتطلب:
الإيجاز: اختزال المشاهد الروائية الطويلة.
التجسيد: تحويل الأفكار المجردة إلى صور وصوت.
الاختلافات الجوهرية:
الأدب: يعتمد على "الكلمة والإيحاء".
السينما: تقوم على "الصورة المباشرة والإيقاع البصري".
أسلوب يحيى حقي النقدي: المزايا والحدود
المزايا
العمق الثقافي: استحضار المراجع الأدبية (مثل مقارنة السينما بالمقامات العربية).
الموضوعية: نقد الأفلام التي تحولت عن نصوصه هويًا (كما في بعض تجارب يوسف إدريس).
السبق التاريخي: يُعد من أوائل النقاد العرب الذين قدموا تحليلًا منهجيًا للسينما.
الحدود
تحيز ضد التجريب: تحفظه على أفلام الموجة الجديدة الفرنسية التي اعتبرها "مبتذلة".
مركزية النص: تجاهل دور المونتاج كأداة سردية مستقلة.
مشكلة الترجمة: كتابة أسماء الأفلام الأجنبية بالعربية فقط دون الأصلية، مما يصعب التعرف عليها.
تأثير الكتاب وإرثه
تأسيس التربية السينمائية: ساهم في دفع المؤسسات التعليمية لتبني مناهج لتحليل الأفلام.
إلهام الأجيال: أثّر في نقاد مثل سمير فريد ورجاء النقاش.
دراسات لاحقة: أصبح مرجعًا أساسيًا في أعمال مثل كتاب "الأدب المرئي" لسميرة أبو طالب الذي يحلل علاقة يحيى حقي ويوسف إدريس بالسينما.
الخاتمة: الكتاب في سياقه التاريخي
"في السينما" ليس مجرد نقد فني، بل "وثيقة تاريخية" تكشف:
التحولات الثقافية: صعود السينما كفن شعبي في مصر.
هموم النخبة المثقفة: سعي الأدباء لربط الفن بالهوية الوطنية.
الجذور المبكرة للنظرية السينمائية العربية: حيث وضع حقي أسئلةً لا تزال مطروحةً:
كيف تكون السينما فنية وتجارية؟
ما دور السينما في تشكيل الوعي الجمعي؟
هل يمكن توطين السينما العالمية في التربة العربية؟
رغم مرور عقود، يظل الكتاب شاهدًا على رؤية متقدمة لجعل السينما "فنًا للجمهور" لا "سلعةً للتجار"، وهو إرث يُحسب ليحيى حقي كرائدٍ في الأدب والنقد معًا.
0 تعليقات