"المتحف العظيم للبحر: تاريخ إنساني لحطام السفن" لجيمس ب. ديلغادو
رحلة إلى أعماق التاريخ
يطل علينا العالم الأثري البحري المخضرم، جيمس ب. ديلغادو، بكتاب استثنائي هو "The Great Museum of the Sea: A Human History of Shipwrecks".
هذا العمل ليس مجرد سردٍ لقصص غرق السفن، بل هو غوصٌ فلسفيٌ وإنسانيٌ في أعماق علاقتنا بالمحيطات، وكيف أصبحت قاع البحر أضخم متحف على وجه الأرض.
يدعونا ديلغادو، من خلال خبرته الميدانية التي امتدت لعقود وشملت الغوص على أكثر من مائة حطام، إلى إعادة النظر في لهذه الرفات المعدنية والخشبية، لا كعلامات على الفشل والموت، بل كنوافذ مشرعة على الماضي، تحكي حكايات البشر مع المغامرة، والتجارة، والحرب، والهجرة، والمأساة.
يتميز الكتاب بأسلوب ديلغادو السردي الشائق الذي يجمع بين دقة الأكاديمي وشغف المستكشف.
إنه لا يقدم لنا الحقائق الجافة فحسب، بل ينقل لنا إحساسه الشخصي وهو يلمس خشب السفينة البالي تحت الماء، أو وهو يكشف عن قطعة أثرية طالما انتظرت من يجدها. هذا المزيج يجعل الكتاب مقروءًا للمتخصص والهاوي على حد سواء.
المحور الأول: فكرة "المتحف العظيم" – رؤية جديدة للبحر
يشكل عنوان الكتاب حجر الزاوية في فهم رؤية ديلغادو. إنه لا يستخدم مصطلح "المتحف" مجازًا فحسب، بل يقدم مفهومًا متكاملاً:
المتحف الشامل: يقدر ديلغادو أن قيعان بحار ومحيطات العالم تحتضن ما يزيد عن ثلاثة ملايين حطام سفينة كبير وصغير. هذا العدد الهائل يشكل أرشيفًا ماديًا ضخمًا، يتفوق على أي مجموعة متحفية على البر. كل حطام هو معرض دائم في هذا المتحف الواسع.
المتحف العضوي: على عكس المتاحف التقليدية، فإن هذا المتحف البحري ديناميكي. تتفاعل حطام السفن مع بيئتها؛ فالشعاب المرجانية تنمو عليها، والأسماك تتخذها موئلًا لها، وتعمل التيارات المائية على تعديل شكلها ببطء. إنه متحف حي، يتغير ويتبدل، لكنه يحافظ على الجوهر التاريخي.
المتحف الديمقراطي والقاسي: هذا المتحف مفتوح للجميع، لكن دخوله صعب ومكلف ومحفوف بالمخاطر. إنه يحافظ على كنوزه بعيدًا عن متناول اليد، مما يحميها من النهب والعوامل الضارة على السطح، لكنه في الوقت نفسه يحرم البشرية من الوصول السهل إلى تراثها.
متحف بلا جدران: يرفض ديلغادو فكرة أن القطع الأثرية يجب أن تُعرض في صناديق زجاجية مضاءة بشكل مثالي. القيمة الحقيقية للحطام تكمن في سياقه، في مكان رقدانه الأخير. رؤية مدفع سفينة حربية وهو لا يزال في موقعه على سطح السفينة الغارقة، لهي أقوى تأثيرًا من رؤيته معزولًا في قاعة متحف.
المحور الثاني: الحطام كنوافذ زمنية – قراءة التاريخ من خلال الأخشاب والحديد
يحلل ديلغادو كيف أن كل حطام هو "كبسولة زمنية" تقدم شهادة لا تقدر بثمن عن لحظة تاريخية مجمدة.
- تاريخ التكنولوجيا والهندسة: ت وقائع حطام السفن تطور بناء السفن، من السفن الخشبية ذات الدفع الشراعي إلى السفن الفولاذية البخارية ثم السفن الحديثة.من خلال دراسة الحطام، يمكن للعلماء فهم تقنيات اللحام المستخدمة في السفن الحربية في الحرب العالمية الثانية، أو جودة الفولاذ في "تايتانيك"، أو تصميم المحركات البخارية الأولى. الحطام هو السجل الأكثر مصداقية للتجارب الهندسية، الناجحة منها والفاشلة.
تاريخ الاقتصاد والتجارة العالمية: كانت السفن التجارية ناقلة للحضارات. حطام السفن التي كانت تنقل البورسلين الصيني، أو التوابل، أو الشاي، أو الذهب، تروي قصة العولمة قبل اختراع المصطلح نفسه. تحمل هذه الحطامات دفاتر شحنها، وبضائعها، وأدوات الحياة اليومية للبحارة والتجار، مما يقدم صورة مفصلة عن الشبكات الاقتصادية التي ربطت بين القارات.
التاريخ الاجتماعي والثقافي: السفينة مجتمع مصغر. من خلال دراسة بقايا الأطباق، والعملات، والأدوات الشخصية، والمجوهرات، والملابس، يمكن للعلماء إعادة بناء التسلسل الهرمي الاجتماعي على متن السفينة، وعادات الطعام، وأذواق وأنماط حياة الركاب من مختلف الطبقات. حطام "تايتانيك"، مثلًا، يروي قصة الفجوة الطبقية الصارخة بين ركاب الدرجة الأولى والثالثة، حتى في لحظة الموت.
- التاريخ العسكري والصراعات: تمثل السفن الحربية الغارقة، مثل "يو إس إس أريزونا" في بيرل هاربور، مواقع قتال ومدافن جماعية في آن واحد.هي شواهد على فظائع الحرب وثمنها البشري الفادح. دراسة هذه الحطام تقدم تفاصيل دقيقة عن المعارك، وتأثير الأسلحة، والتكتيكات البحرية.
المحور الثالث: البعد الإنساني والعاطفي – لماذا تثير الحطام فضولنا وحزننا؟
هذا هو قلب الكتاب، حيث يتجاوز ديلغادو الجانب الأثري المادي ليغوص في الأعماق النفسية والروحية لعلاقتنا بالحطام.
الحطام كمقابر ومقدسات: يؤكد ديلغادو على الجانب الأخلاقي للتعامل مع الحطام التي تحوي رفات بشرية. مواقع مثل "أريزونا" و"تايتانيك" تُعتبر مقابر مائية، ويجب التعامل معها باحترام وتقدير. هي أماكن للحج والذكرى، حيث نكرم الموتى ونتذكر هشاشة الحياة البشرية أمام قوى الطبيعة.
الحطام كرموز وأساطير حديثة: تحولت بعض الحطام إلى أيقونات في المخيال الجمعي. "تايتانيك" أصبحت رمزًا للغطرسة البشرية ("غير قابلة للغرق") وسقوطها أمام جبروت الطبيعة. "إس إس كلوتيلدا" هي رمز لفظائع تجارة الرق ومقاومة الإنسان للاستعباد. هذه السفن تجاوزت كونها هياكل مادية لتصبح حكايات أخلاقية تتناقلها الأجيال.
التناقض في التعامل: بين الحفظ والاستغلال: يناقش ديلغادو بإسهاب المعضلة الأخلاقية المحيطة بالحطام. من ناحية، هناك حركة للحفاظ على الحطام "في مكانها" كمواقع أثرية محمية، يحظر لمسها أو انتشال قطع منها. من ناحية أخرى، هناك تاريخ طويل من "صيادي الكنوز" الذين يستخرجون القطع من الحطام بغرض البيع والربح المادي. يقدم الكتاب حوارًا متوازنًا حول هذه القضية، مبرزًا الصراع بين قيمة الحطام كتراث إنساني مشترك وقيمته المادية كسلعة.
فضول الاكتشاف والمغامرة: يعترف ديلغادو بأن الدافع وراء استكشاف الحطام هو، جزئيًا، ذلك الشعور الفطري بالمغامرة والرغبة في كشف المجهول. هناك إثارة لا تضاهى في اكتشاف سفينة مفقودة كان الجميع يعتقد أنها اختفت للأبد، أو في حل لغز تاريخي من خلال دليل مادي عثر عليه في الأعماق.
المحور الرابع: دراسة حالات – حطام تروي حكاياتها
يخصص ديلغادو مساحات كبيرة لتحليل حطام محددة، مستخدمًا إياها كدراسات حالة لتوضيح أفكاره النظرية.
آر إم إس تيتانيك (RMS Titanic): ليست مجرد سفينة غارقة، بل هي "كاثدرائية تحت الماء" كما يصفها. يحلل ديلغادو سبب استمرار أسطورتها: المزيج المأساوي بين التكنولوجيا الفائقة والثقة العمياء، والدراما الإنسانية التي حدثت على متنها، والفجوة الطبقية، والرواية السينمائية التي جددت الاهتمام بها. ينتقد تجارة الغوص السياحية إليها واستخراج القطع، لكنه يعترف بأن هذا الاهتمام ساهم في تمويل الأبحاث العلمية عنها.
يو إس إس أريزونا (USS Arizona): هنا، يتحول الحطام إلى نصب تذكاري مقدس. يركز ديلغادو على الجانب العاطفي؛ فزيت السفن ("دموع أريزونا") الذي لا يزال يتسرب من الهيكل بعد أكثر من 80 عامًا هو صورة قوية ومؤثرة. يصف الزيارات التي قام بها الناجون القلائل وعائلات الضحايا إلى الموقع، وكيف أن الحطام نفسه أصبح وسيلة للتواصل مع المأساة والتعايش مع الذكرى.
إس إس كلوتيلدا (Clotilda): هذه السفينة تروي قصة مظلمة من تاريخ أمريكا. اكتشافها في عام 2019 كان إثباتًا ماديًا على استمرار تجارة الرق بشكل غير قانوني حتى القرن التاسع عشر. يربط ديلغادو بين الحطام ومجتمع "أفريكتاون" الذي أسسه الناجون من الرق في ألاباما، موضحًا كيف أن الحطام المادي أصبح أداة للتعافي الجماعي وإثباتًا للحقيقة في وجه محاولات محو التاريخ.
حطام من العصور القديمة: لا يقتصر الكتاب على الحطام الحديث، بل يعود إلى السفن اليونانية والرومانية والفينيقية. هذه الحطام تقدم لمحات عن التجارة البحرية في العصور الكلاسيكية، وتقنيات الملاحة القديمة، وانتشار الثقافات عبر البحر الأبيض المتوسط.
المحور الخامس: تحديات الحفظ والإرث الثقافي
يناقش ديلغادو التحديات الكبرى التي تواجه "المتحف العظيم":
التهديدات الطبيعية والبشرية: التآكل الطبيعي في المياه المالحة، والاستغلال التجاري، والغوص غير المسؤول، والصيد الجائر الذي يستخدم شباك الجر التي تدمر المواقع الأثرية.
التشريعات الدولية: يستعرض تطور القوانين الدولية لحماية التراث الثقافي الغارق، مثل اتفاقية اليونسكو لعام 2001، والصعوبات في تطبيقها، والنزاعات حول ملكية الحطام بين الدول والشركات الخاصة.
التكنولوجيا ودورها: يسلط الضوء على كيف أن تطور تكنولوجيا الغوص، والروبوتات تحت المائية (ROVs)، والمسح السوناري، قد غيرت بشكل جذري قدرتنا على اكتشاف ودراسة الحطام في أعماق كان الوصول إليها مستحيلًا في الماضي.
البحر كمتحف حي يجب أن نحميه
يخلص ديلغادو إلى أن حطام السفن هي أكثر من مجرد حطام. هي شواهد حية على تاريخنا المشترك، مليئة بدروس عن الطموح، والابتكار، والصراع، والمقاومة، والمأساة.
"المتحف العظيم للبحر" هو إرث مشترك للبشرية، ومسؤوليتنا الجماعية هي حمايته لفهم ماضينا بشكل أفضل، وتوجيه حاضرنا، والحفاظ على هذه الكنوز للأجيال القادمة.
الكتاب هو دعوة ملحة إلى الوعي، والتقدير، والحماية لهذا التراث الإنساني الفريد الذي يكمن في أعماق مياهنا

0 تعليقات