عشرة أيام هزت العالم

عشرة أيام هزت العالم

 

 "Ten Days That Shook the World" لجون ريد

مقدمة عن الكتاب والمؤلف

"Ten Days That Shook the World" (عشرة أيام هزت العالم) هو العمل الأشهر للصحفي الأمريكي جون ريد، الذي وُلد في عام 1887 في عائلة ثرية ببورتلاند، وتخرّج من جامعة هارفارد قبل أن ينتقل إلى نيويورك ليعمل في الصحافة

انضم ريد إلى طاقم مجلة "The Masses" الاشتراكية، حيث عمل تحت قيادة ماكس إيستمان، وأصبح جزءاً من دائرة المثقفين والصحفيين الراديكاليين التي ضمت يوجين أونيل، وجون دوس باسوس، ولويز براينت التي تزوجها لاحقاً.

تمتع ريد بخبرة صحفية واسعة قبل تغطيته للثورة الروسية، حيث غطى الثورة المكسيكية عام 1914 وقام بتوثيق إضراب عمال المناجم في كولورادو حيث قُتل العشرات من النساء والأطفال في مجزرة لودلو

هذه التجارب ساهمت في تطوير وعيه الطبقي وتحوله إلى كاتب ذي توجه طبقي واضح لا يكتفي بتسجيل الانطباعات بل يحفر أعمق لفهم القوى خلف الأحداث.

الخلفية التاريخية والسياق السياسي

الوضع في روسيا قبل الثورة

كانت روسيا تعيش حالة من الانهيار الاجتماعي والاقتصادي في الأشهر التي سبقت الثورة، حيث انخفضت حصص الخبز اليومية من رطلين إلى لا شيء في الأسابيع الأخيرة من نظام كيرنسكي. تصاعدت معدلات الجريمة والسرقة بشكل كبير لدرجة أن المشي في شوارع المدينة أصبح أمراً بالغ الخطورة.

شكل انهيار الحكومة المؤقتة بقيادة ألكسندر كيرنسكي الأرضية الخصبة لقيام الثورة. فشلت حكومة كيرنسكي في تشكيل ائتلاف مستقر بسبب تضارب المصالح بين المجموعات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة في روسيا. كانت مطالب الجماهير بسيطة وواضحة: "السلام، الأرض، والخبز"، وهو ما فشلت الحكومة المؤقتة في توفيره.

القمع الأمريكي لحرية التعبير

قبل مغادرة ريد إلى روسيا، صدر قانون التجسس في 15 يونيو 1917، الذي فرض غرامات وسجن لمن يعترضون على تجنيد الجنود، ومنع إرسال أي صحيفة أو مجلة تروج لمثل هذه المشاعر.

 أجبرت الحكومة الفيدرالية الأمريكية مجلة "The Masses" على التوقف عن النشر بعد رفض الطاقم تغيير سياسة المجلة المناهضة للحرب العالمية الأولى.

رحلة ريد إلى روسيا وتأليف الكتاب

المصادرة والاستجواب

عاد ريد من روسيا في أبريل 1918 عبر كريستيانيا في النرويج. 

صادر مسؤولو الجمارك الأمريكية حقيبته التي تحتوي على ملاحظاته ومواده عن الثورة (التي شملت منشورات روسية وصحف ونسخ خطابات)، واستجوبوه لأربع ساعات حول أنشطته في روسيا خلال الأشهر الثمانية الماضية.

 لم يستعد أوراقه إلا بعد سبعة أشهر في نوفمبر، حيث عزل نفسه للكتابة بشكل مكثف.

عملية الكتابة المكثفة

وفقاً لماكس إيستمان، فإن ريد كتب الكتاب في غضون عشرة أيام وعشر ليالٍ أو أكثر بقليل. 

كان ريد "هزيلاً، غير حليق، وذو بشرة دهنية، مع نظرة نصف مجنونة لا تعرف النوم على وجهه الشبيه بالبطاطا" عندما كان يعمل ليلاً ونهاراً لإكمال الكتاب.

 قال ريد لإيستمان: "أنا أكتب الثورة الروسية في كتاب. لدي كل اللافتات والأوراق هناك في غرفة صغيرة وقاموس روسي، وأعمل طوال النهار وطوال الليل. لم أغمض عينيي منذ ستة وثلاثين ساعة".

ملخص الأحداث الرئيسية في الكتاب

الخلفية والتمهيد للثورة

يبدأ ريد كتابه قبل فترة وجيزة من بداية الثورة، التي تزامنت مع انقلاب حكومي حيث استولى الحزب البلشفي بقيادة لينين على الدولة الروسية.

 يقدم ريد السياق التاريخي لانهيار النظام القيصري، مسلطاً الضوء على العوامل الاجتماعية والسياسية التي جعلت الانهيار السياسي حتمياً.

كانت الانقسامات السياسية بين الفصائل المختلفة معقدة للغاية، مع وجود العشرات من الأحزاب واللجان والجماعات. 

يصوّر ريد كيف أن البلاشفة، الذين كانوا في البداية "طائفة سياسية صغيرة" مع حوالي 8000 عضو فقط بعد ثورة فبراير، استطاعوا بقيادة لينين وتروتسكي كسب تأييد الجماهير تدريجياً.

الأيام الحاسمة للثورة

يركز الكتاب على الفترة بين 24 أكتوبر و6 نوفمبر 1917 (حسب التقويم اليولياني المستخدم آنذاك في روسيا)، والتي شهدت الأحداث التالية:

  • المؤتمر الثاني للسوفييتات: وصف ريد هذا الاجتماع الصاخب الذي حدث في عشية الثورة، حيث غادر المناشفة والفصائل الاشتراكية المعتدلة الأخرى المؤتمر احتجاجاً على الثورة التي كانت تنتظر في شوارع بتروغراد.

  • الهجوم على قصر الشتاء: يقدم ريد وصفاً حياً للهجوم على قصر الشتاء، مقر الحكومة المؤقتة، والذي مثل النهاية الرمزية للنظام القديم وبداية النظام الجديد.

  • خطاب تروتسكي التاريخي: بعد انسحاب المناشفة، ألقى تروتسكي خطاباً قال فيه: "دعوهم يذهبون! إنهم مجرد نفايات ستُكنس في مزبلة التاريخ!".

  • إعلان لينين عن النظام الاشتراكي الجديد: يصف ريد اللحظة التي أعلن فيها لينين: "سنشرع الآن في بناء النظام الاشتراكي!" وسط هتافات الجماهير.

المشاهد والأصوات في شوارع بتروغراد

يقدم ريد وصفاً غنياً للأجواء في شوارع المدينة خلال تلك الأيام الحاسمة:

"ليلاً، كانت الدوريات المسلحة تجوب الشوارع الصامتة، وفي الزوايا كان الجنود والحرس الأحمر يحتمون حول النيران الصغيرة يضحكون ويغنون؛ في النهار تجمع حشود كبيرة على الأرصفة يستمعون إلى مناقشات لا تنتهي بين الطلاب والجنود، ورجال الأعمال والعمال".

الشخصيات الرئيسية في الكتاب

فلاديمير لينين

يصور ريد لينين كقائد ثوري عبقري، "محبوب ومبجل كما كان قلة من القادة في التاريخ". يبرز الكتاب دور لينين الحاسم في توجيه الحزب البلشفي نحو الاستيلاء على السلطة، وأفكاره حول ضرورة الثورة العالمية.

ليون تروتسكي

يمنح كتاب ريد تروتسكي مكانة بارزة كقائد ثوري، حيث يصوره كالمدبر العسكري للثورة ومنظم اللجان الثورية. هذا التصوير أثار لاحقاً استياء ستالين الذي حاول تهميش دور تروتسكي.

ألكسندر كيرنسكي

يقدم ريد كيرنسكي كشخصية مأسوية، المحامي والبطل الثوري الذي ساعد في تشكيل الحكومة المؤقتة الروسية لكنه فشل في إرساء حكم مستقر قبل أن ينهار تحالفه.

جوزيف ستالين

من اللافت أن ستالين يظهر فقط مرتين في الكتاب، إحداها في تعداد الأسماء. هذا التهميش النسبي لستالين في رواية ريد سيكون له عواقب لاحقة على تداول الكتاب في الحقبة الستالينية.

منهجية ريد الصحفية وأسلوبه

التوثيق الدقيق والمزج بين المصادر

يستخدم ريد نهجاً chronologically (زمنياً) واضحاً في سرد الأحداث، مزج فيه بين ملاحظاته الشخصية وثروة من الوثائق العامة مثل الصحف والبيانات الصحفية والخطابات.

 يحتوي الكتاب على نصوص كاملة للخطابات والمنشورات التي وزعت خلال تلك الأيام، مما يمنح القارئ إحساساً مباشراً بما كان يحدث.

الرؤية الشخصية والموضوعية

على الرغم من تعاطفه الواضح مع الثورة، يؤكد ريد في مقدمة الكتاب أنه حاول "رؤية الأحداث بعين المراسل الملتزم، المهتم بتسجيل الحقيقة"

مع ذلك، فهو يعترف صراحة أن "في الصراع لم تكن تعاطفي محايداً".

الواقعية والحيوية في السرد

تكمن قوة رواية ريد في طابعها الشهودي المباشر، حيث كان حاضرا في المشاهد التي يصفها. كان في الغرفة؛ سمع المناقشات؛ وشاهد فوضى الثورة. هذا يعطي الكتاب إحساساً فورياً وكأن الأحداث تتكشف أمام القارئ.

الاستقبال النقدي والتأثير

ردود الفعل الإيجابية

تلقى الكتاب إشادة واسعة من نقاد مختلفين رغم معارضة بعضهم لسياسات ريد. حتى المناهضين للبلشفية مثل الدبلوماسي والمؤرخ الأمريكي جورج كينان أشادوا بالكتاب، حيث وصفه كينان بأنه "انعكاس لصدق متقد ونقاء المثالية".

تأييد لينين للكتاب

كتب لينين مقدمة للطبعة الأمريكية عام 1922، قال فيها:

"بأعظم اهتمام وباهتمام لا يتراخي قرأت كتاب جون ريد 'عشرة أيام هزت العالم'. أوصي به بدون تحفظ لعمال العالم.

 

هذا كتاب أود أن أراه منشوراً بملايين النسخ ومترجماً إلى كل اللغات. إنه يعرض حقاً وبحيوية شديدة للأحداث ذات الأهمية الكبيرة لفهم ما هو حقيقي الثورة البروليتارية ودكتاتورية البروليتاريا".

انتقادات ستالين للكتاب

انتقد ستالين الكتاب في عام 1924 بحجة أن ريد خدع فيما يتعلق بدور ليون تروتسكي. بسبب التصوير البطولي لتروتسكي والتهميش النسبي لستالين، مُنع تداول الكتاب في الاتحاد السوفيتي خلال العهد الستاليني، قبل أن يُسمح بتداوله مرة أخرى بعد وفاة ستالين.

التقييمات الحديثة

في عام 1999، صنفت جامعة نيويورك الكتاب في المرتبة السابعة في قائمة "أعظم 100 عمل صحفي" في القرن العشرين

علق مدير المشروع ميتشل ستيفنز قائلاً: "ربما يكون العمل الأكثر إثارة للجدل في قائمتنا هو السابع، كتاب جون ريد 'عشرة أيام هزت العالم'"، معترفاً بأن ريد كان منحازاً، لكنه أشاد بقوة الكتابة وأهمية الحدث.

إرث الكتاب وتأثيره

التأثير على الفنون والثقافة

ألهم الكتاب العديد من الأعمال الفنية البارزة:

  • فيلم "أكتوبر: عشرة أيام هزت العالم" (1928) للمخرج السوفيتي سيرجي آيزنشتاين.

  • فيلم "ريدز" (1981) للمخرج وارن بيتي، الذي كان مستنداً إلى حياة جون ريد وأجزاء من الكتاب نفسه.

  • فيلم "الأجراس الحمراء" (1982) للمخرج السوفيتي سيرجي بوندارتشوك.

  • أوبرا أوكرانية عام 1970 بعنوان "Десять днів, що сколихнули світ" (عشرة أيام هزت العالم) للموسيقي مارك كارمينسكي.

مكانة الكتاب في الأدب الصحفي

يظل الكتاب تحفة في الصحافة الاستقصائية وأحد النصوص العظيمة للصحافة الأمريكية. بشكل متناقض، يكتسب الكتاب مصداقية إضافية من كونه غير خاضع لفحص الحقائق وغير وسيط. مع كل عيوبه الأيديولوجية والأدبية، يبقى عملاً صحفياً استثنائياً.

جدلية الموضوعية والانحياز

ظل الجدل حول موضوعية الكتاب قائماً منذ نشره. يشير النقاد إلى أن ريد لم يحاول إخفاء تعاطفه، بينما يرى آخرون أن موقفه من الثورة لم يحل دون دقته الواقعية

يوضح ريد نفسه في المقدمة أن كتابه "ليس محايداً"، لكنه يسعى إلى تقديم "تفاصيل لا يمكن إنكارها".

 أهمية الكتاب المستمرة

بقي كتاب "عشرة أيام هزت العالمشهادة خالدة على واحدة من أكثر اللحظات أهمية في التاريخ الحديث.

 على الرغم من أن ريد توفي بعد فترة وجيزة من نشره بسبب التيفوس في أكتوبر 1920، ودفن في مقبرة جدار الكرملين بموسكو، فإن كتابه استمر كمرجع أساسي لفهم الثورة الروسية.

تكمن قوة الكتاب في قدرته على نقل حيوية ولحظية الأحداث، وجعل القارئ يشعر وكأنه جزء من الحشود في شوارع بتروغراد، ويستمع إلى الخطب في سمولني، ويشهد ولادة نظام جديد. رغم كل ما يُعرف الآن عن مسار الثورة اللاحق ومآلاتها، يظل كتاب ريد وثيقة لا غنى عنها لأي شخص يسعى لفهم  العواطف والتطلعات والأحلام التي دفعت تلك الأيام العشرة التي هزت العالم بالفعل

إرسال تعليق

0 تعليقات