عملية غضب الله

 

عملية غضب الله

 'Operation Wrath of God: The Secret History of European Intelligence and Mossad's Assassination Campaign

عملية غضب الله: التاريخ السري للاستخبارات الأوروبية وحملة الاغتيالات الخاصة بالموساد'

 فتح الأرشيف السري

يعتبر كتاب "عملية غضب الله: التاريخ السري للاستخبارات الأوروبية وحملة الاغتيالات الخاصة بالموساد" للباحثة أفيفا غوتمان، والصادر عن جامعة كامبريدج في أغسطس 2025، إسهاماً استثنائياً في فهم أحد أكثر الفصول إثارة للجدل في تاريخ الاستخبارات الحديثة.

 لا يقدم الكتاب مجرد سرد تاريخي آخر لعملية الاغتيالات التي شنها الموساد رداً على مذبحة ميونخ الأولمبية عام 1972، بل يكشف النقاب عن وثائق أرشيفية غير مسبوقة تثبت التعاون الوثيق بين جهاز الموساد ووكالات الاستخبارات الأوروبية ضمن نادي برن (Club de Berne) .

يعتمد الكتاب على وثائق غير محذوفة من أرشيف "كيلوواط" (Kilowatt) - الذي كان جزءاً من نادي برن - لتكشف كيف ساهمت شبكة سرية من الوكالات الأوروبية في توفير معلومات على نطاق هائل للموساد، ودعمت بشكل ضمني العمليات الإسرائيلية على الأراضي الأوروبية .

 تأتي أهمية هذا الكشف من أنه يعيد كتابة التاريخ المقبول لهذه الفترة، مُظهراً أن الحملة لم تكن مجرد عمل إسرائيلي منفرد، بل مشروعاً تعاونياً أوروبياً-إسرائيلياً تم خارج القيود الرسمية لسياسات الحكومات الخارجية وبمعزل عن الرقابة العامة .

 من صدمة ميونخ إلى قرار الانتقام

مذبحة ميونخ الأولمبية 1972

يبدأ الكتاب بتفصيل الهجوم الصادم الذي نفذته منظمة "أيلول الأسود" الفلسطينية خلال دورة الألعاب الأولمبية في ميونخ، حيث تم اختطاف وقتل 11 رياضياً إسرائيلياً .

 كانت هذه الحادثة نقطة تحول عميقة للدولة الإسرائيلية، حيث مثلت "المرة الثانية منذ الحرب العالمية الثانية التي يتم فيها ذبح يهود على الأراضي الألمانية" 

وفقاً للكتاب، فإن الصدمة الوطنية والإحساس بالإهانة دفعتا رئيسة الوزراء غولدا مائير إلى تشكيل "اللجنة X" برئاستها ووزير الدفاع موشيه ديان، بهدف وضع رد فعل مناسب .

ولادة عملية "غضب الله"

قررت اللجنة أن الرد يجب أن يكون غير تقليدي؛ ليس مجرد قصف لقواعد منظمة التحرير الفلسطينية في سوريا ولبنان، بل شن حملة اغتيالات منهجية ضد كل من شارك مباشرة أو غير مباشرة في عملية ميونخ 

. كان الهدف المعلوم هو تحويل الصيادين إلى فرائس، وإيصال رسالة واضحة إلى القلب الفلسطيني مفادها أن الإفلات من العقاب لم يعد ممكناً 

لكن غوتمان تذهب إلى أبعد من ذلك، مشيرة إلى أن الأهداف كانت أوسع من مجرد المنتقمين لميونخ، وشملت عناصر رئيسية في المقاومة الفلسطينية .

الإطار الأخلاقي والقيود

من النقاط المثيرة للاهتمام التي يسجلها الكتاب التوجيهات الصارمة التي أصدرتها مائير للعملية، حيث أصرت على ألا "تسقط شعرة واحدة من رأس مواطن أوروبي" 

هذا التوجه يظهر التناقض بين الرغبة في الانتقام والحاجة إلى الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية مع الحلفاء الأوروبيين، وهو تناقض حُل - كما يوضح الكتاب - من خلال القنوات السرية للاستخبارات.

 التعاون السري للاستخبارات الأوروبية

نادي برن وشبكة "كيلوواط"

مساهمة الكتاب في كشفه لدور نادي برن، وهو تجمع غير رسمي لوكالات الاستخبارات الأوروبية تأسس عام 1969 وضم في ذلك الوقت ثماني وكالات أوروبية بالإضافة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل 

من خلال الوصول الفريد إلى الوثائق غير المحذوفة في هذا الأرشيف، تثبت غوتمان أن أعضاء النادي، عبر مجموعة عمل تسمى "كيلوواط"، قدموا للموساد معلومات استخباراتية عن الفلسطينيين على نطاق هائل .

آلية تدفق المعلومات

لم تكن المعلومات مجرد تقارير عامة، بل كانت بيانات استخباراتية عملية وموثقة تشارك في الوقت الفعلي أو بعد وقت قصير جداً من الحصول عليها . تضمنت هذه المعلومات أنشطة الأفراد المشتبه بهم، وطرق عملهم، وشركاءهم، وغيرها من التفاصيل التي سمحت للموساد بتحديد تتبعهم بدقة . يشير أحد المراجعين إلى أن "المعلومات والتحليلات المجمعة لجميع أعضاء كيلوواط معاً كانت تفوق بشكل كبير تلك التي لدى أي عضو بمفرده" .

الدعم الضمني والجهل المتعمد

الأكثر إثارة للجدل هو ادعاء الكتاب أن الوكالات الأوروبية لم تكن فقط تقدم المعلومات، بل كانت تتغاضى عمداً عن العمليات الإسرائيلية على أراضيها.

 حتى بعد حادثة ليلهامر المأساوية (التي سيأتي ذكرها لاحقاً)، لم تتأثر علاقات نادي برن، بل على العكس تابعه في التوسع، مما يشير إلى قبول ضمني بحملة الاغتيالات . تذهب غوتمان إلى حد وصف هذا القبول بأنه يجعل هذه الوكالات "شريكة في عمليات الموساد في أوروبا" .

حملة الاغتيالات: عمليات رئيسية وتحليلها

يقدم الكتاب سرداً تفصيلياً للحملة، مع التركيز على كيفية استخدام المعلومات الواردة من شبكة كيلوواط في توجيه الضربات. الجدول التالي يلخص أبرز الاغتيالات المذكورة في الكتاب :

الاسمالمنصب / الانتماءمكان وتاريخ الاغتيالطريقة الاغتيال
وائل زعيترممثل منظمة التحرير الفلسطينية في إيطالياروما، 16 أكتوبر 1972إطلاق نار (12 رصاصة) في بهو عمارته السكنية 
محمود الهمشاريممثل منظمة التحرير الفلسطينية في فرنساباريس، 8 ديسمبر 1972قنبلة مزروعة في هاتفه تم تفجيرها عن بعد 
حسين أبو الكبير (بشير)ممثل حركة فتح في قبرصنيقوسيا، 24 يناير 1973تفجير قنبلة تحت سريره في الفندق 
باسل الكبيسيأستاذ قانون مشتبه بتقديمه دعم لوجستيباريس، 6 أبريل 1973إطلاق نار (12 رصاصة) 
محمد بوديامدير عمليات أيلول الأسود في أوروباباريس، 28 يونيو 1973قنبلة موقوتة تحت مقعد سيارته 
محمد يوسف النجار، كمال عدوان، كمال ناصرقادة بارزون في منظمة التحرير الفلسطينية وأيلول الأسودبيروت، 9 أبريل 1973عملية كوماندو إسرائيلية مشتركة (عملية "ربيع الشباب") 

تحليل منهجية العمل

يشير الكتاب إلى أن الموساد عمل ضمن هيكل معقد لتنفيذ العمليات. حيث تم تقسيم الفرق إلى وحدات متخصصة: "أليف" (قتلة مدربون)، و"بيت" (حراس)، و"حيت" (متخصصون في التمويه وإنشاء الغطاء)، و"عين" (عملاء تتبع وتقصي)، و"قوف" (متخصصون في الاتصالات) . كان الهدف هو ضمان "إنكار plausible"، أي استحالة إثبات ارتباط مباشر بين الاغتيالات وإسرائيل .

دور المعلومات الأوروبية في استهداف المطلوبين

تحاول غوتمان من خلال الوثائق الجديدة "توجيه اتهامات" لكل هدف من أجل "إثبات الادعاء" بأن حملة الاغتيالات "استهدفت بشكل رئيسي العناصر الرئيسية في المقاومة الفلسطينية" . وتخلص إلى أن "معظم الأهداف... كانوا متورطين بعمق في الأنشطة الإرهابية وكان معظمهم يخططون بنشاط لعمليات مستقبلية" . هذا الاستنتاج يدعم الرواية الإسرائيلية الرسمية للحملة، ويقوي من فرضية أن المعلومات الأوروبية ساعدت في استهداف عناصر نشطة بالفعل.

فضيحة ليلهامر: الخطأ القاتل وآثاره

الواقعة

في 21 يوليو 1973، في بلدة ليلهامر النرويجية، قام عملاء الموساد بقتل أحمد بوشيكي، وهو نادٍ مغربي كان يعمل في تنظيف مسبح البلدة، بعد أن ظنوا خطأ أنه علي حسن سلامة (الملقب بـ "الأمير الأحمر")، أحد قادة عملية ميونخ . لم يكن بوشيكي على أي صلة بالإرهاب، وكان برفقة زوجته النرويجية التي كانت حاملاً في شهرها السابع .

التحقيق والعواقب

أدى الحادث إلى فضيحة دولية كبرى، حيث قامت السلطات النرويجية بالقبض ومحاكمة خمسة عملاء للموساد (بمن فيهم العملية سيليفيا رافائيل) 

كتبت رافائيل لاحقاً من السجن: "شيء ما انكسر بداخلي بعد ليلهامر... إنه أضعف رغبتي في مواصلة الخدمة مع الناس الذين احترمتهم كثيراً" . أكثر من ذلك، كما يذكر الكتاب، أدت هذه الحادثة إلى كشف الشبكة الواسعة للموساد وبيوت الآمان التابعة له في جميع أنحاء أوروبا .

رد فعل نادي برن: الدعم المستمر

على الرغم من الصدى السياسي والأخلاقي الهائل للحادثة، فإن أحد أهم الاستنتاجات في كتاب غوتمان هو أن علاقات نادي برن لم تتعثر .

 بل على العكس، استمر تبادل المعلومات ضمن الشبكة بل وتوسع، مما يشير إلى أن وكالات الاستخبارات الأوروبية، على الرغم من إدانتهم العلنية للعملية، قبلوا بشكل ضمني استمرار الحملة كتكلفة ضرورية في الحرب المشتركة ضدهم  كتهجم إرهابي .

النقد والتحليل: تقييم الحملة وأخلاقياتها

نجاحات وإخفاقات الحملة

يقدم الكتاب تحليلاً متوازناً لنتائج عملية "غضب الله". من ناحية، يعترف بأنها حققت بعض أهدافها في ترويع القيادات الفلسطينية وإرباك عملياتها لبعض الوقت 

كما أنها ساعدت في إحباط عدد من المؤامرات الإرهابية الفلسطينية، بما في ذلك بعض العمليات التي يتم الكشف عنها لأول مرة في هذا الكتاب .

 لكن من ناحية أخرى، فإن الفشل في القبض على العقل المدبر لميونخ (أبو داود) حتى نهاية الحملة، بالإضافة إلى التكلفة السياسية والبشرية لـ "خطأ ليلهامر"، يطرحان تساؤلات حول الفعالية العامة للحملة .

الأسئلة الأخلاقية والقانونية

ينتقل الكتاب من السرد التاريخي إلى طرح أسئلة نقديةقى:

  • إذا كان الاغتيال من قبل الحكومة شكلاً مقبولاً من أشكال العقاب، دون محاكمة أو حكم، فكيف يمكن رسم الخط الفاصل بين الحالات التي يمكن استخدامه فيها ومتى يجب استخدام شكل أكثر تحضراً من العقاب الجنائي؟ 

  • كيف تبرر الحكومات التي تقدم الدعم عبر القنوات السرية - والتي تزعم أيضاً أنها حكومات "للشعب" - أفعالها لمواطنيها، خاصة عندما تكون هذه الأفعال متناقضة مع السياسة الخارجية المعلنة أو القيم الديمقراطية؟ 

  • يعلق أحد المراجعين على هذا التناقض بقوله: "إذن نحن جميعاً إرهابيون الآن... فالأفعال نفسها التي تخدم الغرض نفسه وهو إرهاب الآخرين تكون مقبولة إذا قامت بها حكومة، ولكنها إرهاب إذا قام بها شعب مضطهد" .

استقلالية أجهزة الاستخبارات عن الحكومات

إحدى المواضيع الرئيسية التي يستكشفها الكتاب هي فكرة أن أجهزة الاستخبارات تتمتع بقدر كبير من الحكم الذاتي وتعمل بشكل مستقل إلى حد ما عن الحكومات 

هذا "النظام الموازي" مكّن من متابعة علاقات الدولة بشكل مستقل عن قيود السياسة الخارجية الرسمية أو التدقيق العام . تثير غوتمان تساؤلاً حول سواء كان هذا الأستقلال مطلوبا أو خطيرا في عالم اليوم.

الأهمية المعاصرة

إرث عملية "غضب الله"

يخلص الكتاب إلى أن إرث العملية معقد ومزدوج. فقد ساعدت في تأسيس سمعة الموساد كجهاز استخباراتي لا يرحم وقادر على الوصول إلى أعدائه في أي مكان

 كما عززت التعاون الاستخباراتي الغربي-الإسرائيلي ل عقود قادمة . لكنها في الوقت نفسه، وضعت سابقة خطيرة للاغتيالات المستهدفة خارج نطاق القضاء كأداة سياسية، و أثارت اسئلة حول الأخلاق التي لا تزال قائمة حتى اليوم .

الدروس المستفادة للحاضر

لكن قيمة كتاب غوتمان تتجاوز السرد التاريخي إلى تقديم إسقاطات على الواقع الحالي. فهي تشير إلى أنه في لحظات الأزمات والأحداث الصادمة (مثل ميونخ)، تميل الدول إلى خلق أنظمة موازية للعمل خارج الأطر القانونية المعتادة، مدفوعة بمنطق "الضرورة" الأمنية .

 كما أن الكتاب يقدم تحذيراً من أن التعاون الاستخباراتي، رغم فوائده الأمنية، يمكن أن يخلق شبكة من المسؤولية المشتركة والفضاءات غير الخاضعة للمساءلة الديمقراطية.

ربما يكون الاستنتاج الأكثر إلحاحاً الذي يقدمه الكتاب للمشهد الحالي هو يعكس على طبيعة العلاقات بين الحكومات وأجهزة استخباراتها، وبين القيم المعلنة والممارسات السرية. 

في وقت تعلن فيه الحكومات الأوروبية عن مواقف سياسية معينة تجاه إسرائيل، يستمر التعاون الاستخباراتي على قدم وساق، مما يؤكد وجود طبقة عميقة من المصالح المشتركة تتجاوز تقلبات السياسة .

باختصار، كتاب أفيفا غوتمان ليس مجرد  تاريخي، بل هو مرآة نقدية نرى من خلالها التوترات الأبدية بين الأمن والحرية، بين العدالة والانتقام، وبين ضرورة العمل السري وشفافية النظام الديمقراطي

إرسال تعليق

0 تعليقات