"Will Eisner: A Comics Biography" لستيف وينر ودان مازور
مقدمة
يُعد كتاب "Will Eisner: A Comics Biography" (المنشور في يوليو 2025) ثمرة تعاون بين الكاتب ستيف وينر والفنان دان مازور، وهو سيرة ذاتية مصورة تليق بأحد عمالقة فن القصص المصورة.
يُقدم هذا العمل نظرة شاملة على حياة ويليام إروين إيسنر (1917-2005)، الرجل الذي لم يكتفِ بتشكيل ملامح عالم القصص المصورة في القرن العشرين بل وسّع من حدودها الفنية والأدبية وساهم في إضفاء الشرعية عليها كشكل فني راقٍ.
تسلط السيرة الضوء على إسهاماته الخالدة، بدءًا من شخصية "ذا سبيريت" (The Spirit) الرائدة ووصولاً إلى إطلاقه مصطلح "الرواية المصورة" (Graphic Novel) وتأليفه لعمله المؤثر "عقد مع الله" (A Contract with God) في عام 1978 .
يتميز هذا الكتاب بأنه يسرد قصة حياة إيسنر من خلال الوسيط الفني ذاته الذي كرس له إيسنر حياته، مما يمنح القارئ تجربة غامرة ومباشرة. يقدم وينر، وهو مؤرخ معروف للقصص المصورة، النص بمهابة ووضوح
بينما ينقل مازور، وهو فنان وكاتب قصص مصورة محترف، القصة برسوم معبرة تلتقط جوهر الأسلوب الإيسنري دون تقليده حرفيًا . لا يقتصر الكتاب على سرد الأحداث التسلسلية لحياة إيسنر فحسب، بل يغوص في السياق التاريخي والصناعي الذي نشأ فيه، مع التركيز بشكل خاص على جذوره اليهودية الأمريكية وتأثيرها على مساره .
المحتوى والتحليل
البدايات: الجذور والتكوين
يبدأ الكتاب رحلته في برونكس، نيويورك، حيث نشأ إيسنر في أسرة يهودية من المهاجرين عانت من الفقر خلال فترة الكساد الكبير.
كان والده، صموئيل، رسامًا طموحًا عمل في رسم خلفيات مسرح الفودفيل، بينما كانت والدته، فاني، تسعى دائمًا للاستقرار المالي مما ولد لدى إيسنر الصغير حس المسؤولية والرغبة في الإنجاز المادي إلى جانب شغفه الفني .
يصور الكتاب بشكل مؤثر كيف شجع الأب موهبة ابنه الفنية من خلال تزويده بأدوات الرسم، بينما كانت الأم تخشى عدم استقرار مهنة الفن .
كان إيسنر قارئًا نهماً للمجلات "البولبية" (Pulp Magazines) ومشاهدًا كبيرًا للأفلام، بما في ذلك الأفلام الطليعية لتلك الفترة. في مدرسة ديويت كلينتون الثانوية، عمل في صحيفة المدرسة ومجلتها الأدبية، مما أتاح له صقل موهبته المبكرة. بعد التخرج، درس لفترة تحت إشراف الفنان جورج براندت بريدجمان في رابطة طلاب الفن في نيويورك، مما منحه أساسًا تقنيًا قويًا .
دخول عالم القصص المصورة وتأسيس استوديو إيسنر وأيجر
تبدأ المرحلة التالية من القصة بدخول إيسنر الاحترافي إلى عالم القصص المصورة الناشئ. في عام 1936، شجعه صديقه بوب كين (الذي اشتهر لاحقًا بابتكار باتمان) على بيع رسومه لمجلة "Wow, What A Magazine!" .
بعد انتهاء المجلة، شكّل إيسنر شراكة مع محررها، جيري أيجر، وأسسا واحدًا من أولى "شركات التغليف" (Packaging Studios) للقصص المصورة، وهي "إيسنر وأيجر" .
يوضح الكتاب بالتفصيل كيف عمل الاستوديو كخط إنتاج، حيث كان يخلق محتوى أصليًا للعديد من الناشرين الأوائل مثل Fox Comics وFiction House وQuality Comics.
خلال هذه الفترة، ساهم إيسنر في ابتكار شخصيات مثل Doll Man وBlackhawk . كانت الشركة ناجحة ماليًا بشكل كبير، حيث ادعى إيسنر أنهما اقتسما 25,000 دولار في عام 1939 فقط، وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت .
يقدم الكتاب لمحات داخلية عن العمليات الإبداعية والتجارية للاستوديو، من كتابة السيناريو إلى التخطيط والتحبير، مما يمنح القارئ فهمًا عميقًا لصناعة القصص المصورة في أيامها الأولى .
ولادة "السبيريت" ومرحلة النضج الفني
تمثل نقطة التحول الرئيسية في قصة إيسنر عندما عرض عليه ناشر "كواليتي كومكس"، إيفريت "بوزي" أرنولد، فرصة إنشاء ملحق مصور يومي للصحف في أواخر عام 1939.
رأى ناشرو الصحف في الملحقات المصورة طريقة لمنافسة شعبية القصص المصورة . في قرار مصيري، باع إيسنر حصته في شركته لأيجر بمبلغ 20,000 دولار وتفرغ تمامًا لهذا المشروع الطموح .
كانت النتيجة هي "ذا سبيريت"، وهي سلسلة بطولية تدور حول بطل مقنع اسمه ديني كولت، الذي يُفترض أنه مات ويعمل كجندي شبح لمحاربة الجريمة.
لكن عبقرية "السبيريت" لم تكن في البطل نفسه، بل في الطريقة الثورية التي استخدم بها إيسنر الشكل الفني. لقد حول القصة البوليسية التقليدية إلى مسرح لتجارب سردية وبصرية جريئة. لقد استكشف الموضوعات البوليسية ولكن بأسلوب سينمائي وشاعرية غير مسبوقة، مع اهتمام كبير بتطوير الشخصيات والعالم من حول البطل .
يخصص الكتاب قسمًا كبيرًا لهذه الفترة الإبداعية الخصبة، مسلطًا الضوء على كيف أن إصدار إيسنر الأسبوعي للقسم - الذي احتوى على 16 صفحة وشمل أيضًا قصصًا مساندة مثل "السيد ميستيك" و"ليدي لاك" - سمح له بتطوير وتنقيح أسلوبه المميز على مدى 12 عامًا (1940-1952) .
كان "السبيريت" مختبرًا حقيقيًا للابتكارات في التكوين والإضاءة والسرد، مما أثر على جيل كامل من الفنانين.
الخدمة في الحرب العالمية الثانية والتجارب الشخصية
لا يتجاهل الكتاب فترة انقطاع إيسنر عن "السبيريت" أثناء خدمته في الحرب العالمية الثانية. حيث تم تجنيده وأمضى تلك السنوات في قاعدة فورت ديكس، حيث كان يرسم مواد تدريبية للجيش ورسومًا هزلية للمنشورات العسكرية مثل صحيفة "Army Motors" .
على الرغم من أن هذه الفترة كانت انقطاعًا عن عمله التجاري الرئيسي، إلا أنها وسعت من فهمه للتواصل البصري وأكسبته مهارات جديدة.
بشكل مؤثر، يتناول الكتاب أيضًا المآسي الشخصية التي شكلت فنه لاحقًا، وأبرزها وفاة ابنته أليس بسبب اللوكيميا في سن 16 عامًا . هذه الحادثة المأساوية تركت ندبة عميقة في إيسنر، وألهمت لاحقًا بعض أكثر أعماله نضجًا وعاطفية، حيث أصبح الفن وسيلته للتعامل مع الخسارة.
اختراع "الرواية المصورة" وإرث إيسنر التعليمي
ربما يكون الفصل الأكثر أهمية في الكتاب هو ذلك الذي يوثق تحول إيسنر في مرحلة لاحقة من حياته. بعد سنوات من النجاح مع "السبيريت" والعمل في مجال الرسوم التعليمية، عاد إيسنر إلى الساحة الفنية في عام 1978 بعمل ثوري أطلق عليه اسم "رواية مصورة" (Graphic Novel)، وهو مصطلح ابتكره لإقناع الناشرين التقليديين بأهمية العمل.
كان هذا العمل هو "A Contract with God"، عبارة عن مجموعة من أربع قصص تستكشف حياة اليهود في مدينة نيويورك خلال الكساد الكبير .
يشرح الكتاب كيف أن هذا العمل، المستوحى من تجاربه الشخصية في فترة طفولته وحزنه على وفاة ابنته، كسر الصورة النمطية للقصص المصورة كوسيلة ترفيهية للأطفال فقط. لقد أثبت أن القصص المصورة يمكنها معالجة موضوعات بالغة وتعقيدات المشاعر الإنسانية بنفس عمق أي شكل فني آخر. لم يكتفِ إيسنر بذلك، بل واصل تأليف العديد من الروايات المصورة الأخرى مثل "The Building" و"A Life Force"، وكتب كتبًا نظرية مؤثرة مثل "Comics and Sequential Art" (1985) و"Graphic Storytelling and Visual Narrative"، والتي أصبحت نصوصًا أساسية في دراسة الفن .
العلاقات والسياق ضمن تاريخ القصص المصورة
يمتد نطاق السيرة beyond إيسنر نفسه ليرسم صورة للعصر الذهبي للقصص المصورة. يسلط الضوء على حقيقة أن العديد من رواد هذه الصناعة، مثل جيري سيجل وجو شوستر (مبتكرا سوبرمان)، كانوا من خلفيات يهودية أمريكية، مما يساهم في صياغة شكل من أشكال التعبير الفني الأمريكي الجديد .
يتم تصوير علاقة إيسنر المعقدة مع شريكه جيري أيجر، وكذلك علاقاته مع فنانين بارزين آخرين مثل جاك كيربي وجولز فايفر ووالي وود، الذين ظهروا جميعًا في القصة بأدوار صغيرة .
يذكر الكتاب أيضًا القضية القانونية المبكرة حول شخصية "ووندرمان" التي ساهم إيسنر في إنشائها لصالح الناشر فيكتور فوكس، والتي اتهمت بنسخ سوبرمان.
على عكس رواية إيسنر اللاحقة بأنه شهد ضد فوكس، يشير الكتاب إلى أن الأرشيفات كشفت أنه دعم فوكس وادعى أن "ووندرمان" كان من ابتكاره الأصلي .
الأسلوب الفني والنهج السردي
أسلوب دان مازور الفني
يعد العمل الفني لـ دان مازور أحد أقوى جوانب هذا السيرة. بدلاً من محاولة تقليد أسلوب إيسنر بشكل مباشر، الذي قد يؤدي إلى التقليد، قام مازور بتطوير لغة بصرية خاصة به مع إظهار الاحترام العميق لإرث إيسنر.
يستخدم مازور خطوطًا تعبيرية وحرة إلى حد ما، مع تدرجات لونية من اللون البني الداكن (Sepia)، مما يعطي الكتاب إحساسًا تاريخيًا دافئًا ومناسبًا .
يبرع مازور في إحياء جو نيويورك في منتصف القرن العشرين. فهو ينقل بشكل فعال الفرق بين خشونة الأحياء مثل حانة دولان وبين الفخامة الباردة للأندية والناشرين، مما يعكس بصريًا رحلة إيسنر من هوامش الصناعة إلى التيار الرئيسي لها .
هذا الاهتمام بالتفاصيل البيئية والمواقع هو إيماءة مناسبة لأسلوب إيسنر نفسه، الذي اشتهر باستخدامه للإعدادات الحضرية كشخصية في قصصه.
نهج ستيف وينر السردي
ككاتب ومؤرخ للقصص المصورة، يأتي ستيف وينر إلى هذا المشروع بسلطة واضحة وعاطفة عميقة للقصة. النص غني بالمعلومات لكنه ليس جافًا أبدًا.
بدلاً من تقديم قائمة جافة بالأحداث، قام وينر وبمساعدة مازور ببناء المشاهد بشكل درامي، مما يسمح للقارئ باختبار اللحظات المحورية في حياة إيسنر بدلاً من مجرد قراءتها .
يتم تنظيم الكتاب في فصول مرتبة زمنيًا، لكنه يتجنب الإيقاع السريع الذي يعيب بعض السير الذاتية المصورة. بدلاً من ذلك، يأخذ الوقت الكافي للتعمق في كل مرحلة، مع إدراج معلومات سياقية جانبية حول تاريخ القصص المصورة ككل .
هذا يجعل من الكتاب ليس فقط سيرة ذاتية لإيسنر، ولكن أيضًا مقدمة سهلة الاستيعاب لتطور الوسط الفني الذي ساعد في تشكيله.
الجدول الزمني لأبرز محطات حياة ويليام إيسنر
ملخصا
يخلص الكتاب إلى أنه على الرغم من أن إيسنر حقق نجاحًا تجاريًا هائلاً في وقت مبكر من حياته المهنية، إلا أن إرثه الحقيقي يكمن في رفضه المستمر لاكتشاف حدود الوسيط الفني.
لقد انتقل من مبتكر تجاري شاب إلى رائد فني، وأخيرًا إلى فيلسوف ومعلم للفن التسلسلي. لقد آمن إيسنر بإمكانيات القصص المصورة حتى عندما نظر إليها العالم بازدراء، وكان تصميمه هي السبب الرئيسي في اعتبارها اليوم شكلاً فنيًا وأدبيًا شرعيًا.
"Will Eisner: A Comics Biography" هو أكثر من مجرد سرد للحقائق؛ إنه تكريم عاطفي ومدروس لرجل كرس حياته للفن الذي أحبه.
كما ذكرت مجلة "Library Journal"، "ليس مبدعًا من الناحية الشكلية مثل أفضل أعمال موضوعه، لكن وينر ومازور صاغا دليلاً مؤثرًا ومُلهمًا للقادمين الجدد إلى عالم إيسنر وتكريمًا محترمًا للمعجبين، أصبح أكثر تأثيرًا لكونه مرويًا من خلال الوسيط الذي دافع عنه إيسنر" .
بالنسبة لأي شخص مهتم بتاريخ القصص المصورة، أو الثقافة اليهودية الأمريكية، أو ببساطة قصة رجل واحد غير مسار شكل فني بأكمله، فإن هذا الكتاب يعد قراءة أساسية.
إنه يؤكد بشكل جميل على الإيمان الراسخ الذي حافظ عليه إيسنر طوال حياته: أن القصص المصورة ليست مجرد ترفيه، ولكنها شكل أدبي قادر على التقاط النطاق الكامل للتجربة الإنسانية
0 تعليقات