الرأسمالية بلا رأس المال - صعود الاقتصاد غير الملموس

 

الرأسمالية بلا رأس المال - صعود الاقتصاد غير الملموس
Capitalism without Capital: The Rise of the Intangible Economy

 الرأسمالية بلا رأس المال - صعود الاقتصاد غير الملموس


 التحول التاريخي إلى الاقتصاد غير الملموس

يشير كتاب "الرأسمالية بلا رأس المال" إلى حدوث ثورة هادئة في مطلع القرن الحادي والعشرين، حيث تجاوز الاستثمار في الأصول غير الملموسة مثل التصميم والعلامات التجارية والبحث والتطوير والبرمجيات

 لأول مرة في التاريخ، الاستثمار في الأصول الملموسة التقليدية مثل الآلات والمباني والحواسيب في الاقتصادات المتقدمة الرئيسية.

 يؤكد المؤلفان، جوناثان هاسكل وستيان ويستليك، أن هذا التحول ليس مجرد قصة مألوفة عن "الاقتصاد الجديد"، بل هو ظاهرة أوسع وأعمق لها تداعياتها على عدم المساواة الاقتصادية وركود الإنتاجية وتحديات السياسات العامة

لقد أصبحت القدرة على نشر أصول لا يمكن رؤيتها ولا لمسها المصدر الرئيسي للنجاح طويل الأجل لجميع أنواع الشركات، من شركات التكنولوجيا والمستحضرات الصيدلانية إلى المقاهي وصالات الألعاب الرياضية.

 صعود الاقتصاد غير الملموس

ما هي الاستثمارات غير الملموسة؟

الاستثمار غير الملموس هو الاستثمار في أصول فكرية ومعرفية وعلائقية تخلق قيمة مستقبلية، لكنها لا تتمتع بوجود مادي. يقسم المؤلفان هذه الاستثمارات إلى ثلاث فئات عريضة:

  1. المعلومات المعالجة حاسوبياً: وتشمل البرمجيات وقواعد البيانات.

  2. الملكية الابتكارية: وتشمل البحث والتطوير (R&D)، وتطوير المنتجات والخدمات، وحقوق التأليف والنشر، وتصاميم المنتجات.

  3. الكفاءات الاقتصادية: وتشمل بناء العلامات التجارية، وتطوير نماذج الأعمال المميزة، ورأس المال التنظيمي، وتدريب الموظفين.

الدلائل على التحول

يستند الكتاب إلى أكثر من عقد من البحث القائم على أعصار مؤسسة مثل كارول كورادو وتشارلز هولتن ودان سيتشيل، ليظهر أن الاستثمار غير الملموس تجاوز نظيره الملموس في وقت الركود العظيم في عام 2008 في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

ومن الأمثلة الصارخة على هذه الظاهرة شركة مايكروسوفت، التي بلغت قيمة أصولها الملموسة التقليدية من المصانع والمعدات 3 مليارات دولار فقط في عام 2006، وهو ما يعادل 1% من قيمتها السوقية التي بلغت 250 مليار دولار

 بينما جاءت القيمة المتبقية من أصول غير ملموسة مثل تصميم المنتجات والأفكار الناتجة عن البحث والتطوير وعلامتها التجارية وسلسلة التوريد العالمية وهيكلها الداخلي ورأس المال البشري.

 الخصائص الاقتصادية الفريدة للاستثمارات غير الملموسة (الـ "أربعة S")

قلب هذا الكتاب هو شرح الخصائص الاقتصادية الأربع الأساسية التي تميز الاستثمارات غير الملموسة عن الملموسة، والتي تشرح سبب اختلاف سلوك الاقتصاد المعاصر.

الخصائص الأربع للاستثمارات غير الملموسة

الخاصيةالتعريفالمثال
القابلية للتوسع (Scalability)يمكن استخدام الأصل غير الملموس بعدة أماكن وفي وقت واحد دون أن يتضاءل قيمة.يمكن نسخ البرنامج أو برنامج التمرين (مثل BODYPUMP من Les Mills) بعدد لا نهائي بتكلفة هامشية شبه معدومة.
الغراقة (Sunkenness)يصعب استرداد تكاليف الاستثمار غير الملموس أو بيعها إذا فشل المشروع.عندما تخلت شركة EMI عن مشروع الماسح الضوئي CT، لم تستعد سوى القليل جدًا من استثماراتها في البحث والتطوير، على عكس المصنع الذي يمكن بيعه.
الفوائد الخارجية (Spillovers)يسهل على الشركات الأخرى (بما في ذلك المنافسون) الاستفادة من الاستثمارات غير الملموسة التي تقوم بها شركة ما.استفادت شركتا General Electric وSiemens من التكنولوجيا التي طورتها EMI لبناء أعمال ناجحة للماسحات الضوئية CT.
التآزرات (Synergies)تصبح الأصول غير الملموسة أكثر قيمة عند دمجها مع أصول غير ملموسة أخرى.جاء تطوير الماسح الضوئي CT من خليط من أبحاث EMI في الحوسبة والتصوير والهندسة الكهربائية، مدمجًا مع خبرة الأطباء.

نتائج هذه الخصائص

تنتج هذه الخصائص الأربع خاصيتين عامتين أخريين للاقتصاد غير الملموس:

  1. عدم اليقين: يؤدي الجمع بين "الغراقة" و"الفوائد الخارجية" إلى زيادة عدم اليقين بشأن القيمة النهائية لأي استثمار غير ملموس.

  2. المنازعة: تميل الأصول غير الملموسة إلى أن تكون موضع نزاع، حيث يتنافس الأفراد والشركات للسيطرة عليها أو امتلاكها أو الاستفادة منها، مما يؤدي إلى نزاعات قانونية حول براءات الاختراع والملكية الفكرية.

تداعيات الاقتصاد غير الملموس

لغز ركود الإنتاجية والركود المزمن

يفسر تحول إلى الاستثمارات غير الملموسة العديد من الألغاز الاقتصادية المعاصرة، أبرزها تباطؤ نمو الإنتاجية في العديد من الاقتصادات المتقدمة على الرغم من التقدم التكنولوجي.

 أولاً، لأن جزءًا كبيرًا من الاستثمار غير الملموس لا يُسجل في الإحصاءات الاقتصادية الرسمية، مما يؤدي إلى التقليل من قيمة الاستثمار الحقيقي في الاقتصاد

ثانيًا، بعد الركود العظيم، خفضت الشركات استثماراتها غير الملموسة، مما أدى إلى تقليل "الفوائد الخارجية" و"التآزرات" المحتملة التي تغذي نمو الإنتاجية على المدى الطويل

ثالثًا، تسمح "القابلية للتوسع" للشركات الأكثر نجاحًا ("النجوم") باحتلال السوق بالكامل، مما يوسع فجوة الإنتاجية والأرباح بينها وبين الشركات المتخلفة، وقد يؤدي هيمنة عدد قليل من الشركات إلى إبطاء النمو الإنتاجي الإجمالي إذا لم تتمكن الشركات المتخلفة من اللحاق بالركب.

تفاقم عدم المساواة

يساهم الاقتصاد غير الملموس في تفاقم عدم المساواة بعدة أبعاد:

  • عدم المساواة في الدخل: تحقق الشركات "النجوم" التي تتحكم في أصول غير ملموسة قابلة للتوسع عوائد غير متناسبة، مما يزيد من هوة الربحية بينها وبين المنافسين. وهذا بدوره يزيد من الطلب على المديرين والعمال ذوي المهارات العالية الذين يمكنهم إدارة هذه الأصول واستغلالها، مما يرفع أجورهم بينما تتخلف أجور الآخرين.

  • عدم المساواة في الثروة: تزداد قيمة العقارات في المدن الكبرى، حيث تتراكم المعرفة وتحدث "التآزرات" و"الفوائد الخارجية"، مما يجعلها أماكن جذابة للعيش والعمل، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار المساكن وتركيز الثروة في هذه المناطق.

  • عدم المساواة في الاعتبار: تشير إلى أن السمات النفسية والثقافية المناسبة للاقتصاد غير الملموس (مثل الانفتاح على التجربة) أصبحت أكثر قيمة، مما قد يغذي توترات ثقافية ويدعم الحركات الشعبوية.

تحديات النظام المالي التقليدي

تكافح الأنظمة المالية التقليدية لتمويل الشركات المعتمدة على الأصول غير الملموسة لعدة أسباب:

  • صعوبة التمويل بالدين: تعتمد البنوك في الإقراض على الضمانات، لكن الأصول غير الملموسة "غارقة" ومن الصعب تقييمها أو استخدامها كضمان، مما يجعل المقرضين أكثر ترددًا.

  • قيود أسواق الأسهم: تفشل معايير المحاسبة التقليدية في التقاط القيمة الكاملة للأصول غير الملموسة، كما أن طبيعتها غير المؤكدة والمترابطة تجعل تقييمها صعبًا بالنسبة للمستثمرين في الأسواق العامة.

  • صعود التمويل البديل: نتيجة لذلك، أصبح رأس المال الاستثماري ورأس المال الخاص ضروريين لتمويل الشركات الناشئة الغنية بالأصول غير الملموسة، حيث يتمتع هؤلاء المستثمرون بدرجة أعلى من التحمل للمخاطر والمهارات اللازمة لتقييم هذه الأصول.

أهمية الإدارة والقيادة

في الاقتصاد غير الملموس، تزداد قيمة المديرين والقادة المهرة بشكل كبير. تحتاج الشركات إلى قادة يمكنهم تنسيق الاستثمارات غير الملموسة في مجالات منتجة مختلفة

 واستغلال "التآزرات" بينها، وحماية المعرفة داخل الشركة مع الاستفادة من "الفوائد الخارجية" من الشركات الأخرى، وخلق ثقافة تحفز الموظفين المعتمد على المعرفة وتحتضن عدم اليقين. 

كما يصبح تقييم الشركات الغنية بالأصول غير الملموسة أكثر صعوبة بالنسبة للمستثمرين، مما يتطلب منهم البحث عن معلومات تتجاوز البيانات المالية التقليدية.

سياسات عامة للاقتصاد غير الملموس

يدعو المؤلفان إلى إعادة التفكير جذرية للسياسات العامة لتتناسب مع طبيعة الاقتصاد الجديد.

  • إعادة تعريف البنية التحتية: يجب على الحكومات توسيع مفهومها للبنية التحتية ليشمل ليس فقط الطرق والجسور، ولكن أيضًا البنية التحتية المعرفية، والتي تشمل نظام التعليم، وشبكات الاتصالات والإنترنت، والتخطيط الحضري الذي يسهل الالتقاء وتبادل الأفكار، والاستثمار في العلوم الأساسية والبحث.

  • إصلاح نظام الملكية الفكرية: تحتاج سياسات الملكية الفكرية إلى تحقيق توازن دقيق. فالحماية القوية جدًا قد تخنق "الفوائد الخارجية" و"التآزرات" الضرورية للابتكار، بينما قد تؤدي الحماية الضعيفة جدًا إلى تثبيط الاستثمار في الأصول غير الملموسة لأن المخترعين لن يتمكنوا من جني ثمار استثماراتهم. قد يتطلب هذا النهج سياسات أكثر دقة تختلف باختلاف القطاعات.

  • إصلاح النظام المالي والضريبي: معظم أنظمة الضرائب في العالم تفضل التمويل بالدين على التمويل بالسهم، وهو ما لا يتناسب مع طبيعة الشركات غير الملموسة. لذلك، قد تكون هناك حاجة للإصلاح الضريبي لإنهاء هذه المعاملة التفضيلية للدين وزيادة المزايا الضريبية للشركات الناشئة والاستثمار في رأس المال الاستثماري.

  • دعم مؤسسات توليد المعرفة: يوصي المؤلفان بدعم مالي أكبر للمؤسسات التي تولد معرفة عالية "الفوائد الخارجية"، مثل معاهد البحث، لتعويض النقص في الاستثمار الخاص في المجالات التي تكون فيها العوائد الاجتماعية أعلى من العوائد الخاصة.

 مستقبل الرأسمالية بلا رأس المال

يختتم هاسكل وويستليك كتابهما بتقديم ثلاث سيناريوهات محتملة للمستقبل ويحددان كيف يمكن للمديرين والمستثمرين وصناع السياسات الاستفادة من خصائص العصر غير الملموس.

 القوة الأساسية للكتاب هي تقديم إطار متماسك ومقنع لفهم مجموعة من الظواهر الاقتصادية المعقدة التي تبدو منفصلة – من ركود الإنتاجية وعدم المساواة إلى صعوبة تمويل الشركات الناشئة – وربطها بقوة واحدة أساسية: التحول من الاستثمار في الآلات إلى الاستثمار في الأفكار.

يبقى "الرأسمالية بلا رأس المال" مرجعًا أساسيًا لأي شخص – سواء كان اقتصاديًا، أو صانع سياسات، أو مديرًا، أو مستثمرًا – يسعى لفهم الديناميكيات العميقة للاقتصاد الحديث والتحديات والفرص التي يقدمها لنا المستقبل

إرسال تعليق

0 تعليقات