"السمان والخريف" لنجيب محفوظ
سيرة الانهزام والاغتراب في عالم ما بعد الثورة
1. الشخصية المحورية: تشريح سقوط عيسى الدباغ
- الارتقاء والانكسار:يبدأ عيسى الدباغ كسياسي وفدي شاب، تدرج سريعاً في المناصب حتى أصبح مديراً لمكتب وزير وفدي قبل الثلاثين. تمثل خطبته لابنة "علي بك سليمان" ذروة طموحه الطبقي والسياسي، حيث حضر مراسم الخطبة رجال القصر والوفد معاً، مما يرمز لتحالفات النخبة .
- السقوط الدراماتيكي:بعد ثورة يوليو، يُحال عيسى إلى المحفوظات، ثم تستدعيه "لجنة التطهير" لتُدان تورطه في قضايا رشاوى مقابل تسهيل مصالح. يُحال للمعاش، ويفقد منصبه وخطيبته، لينتقل من قمة الهرم إلى هامش الوجود. هذا السقوط ليس مادياً فحسب، بل نفسي: "كنا حزب المثل الأعلى... فكيف أدركت روحنا الشيخوخة؟" .
- الاغتراب الوجودي:يعيش عيسى حالةً من "الموت المعنوي" بعد إقصائه، فيصبح "كالديناصور عملاق الأساطير البائدة" – وفق وصفه لانعكاس وجهه في المرآة. يُجسّد هذا التحول أزمة جيلٍ كاملٍ شعر بأنه "زائد عن الحاجة" في مصر الجديدة .
2. الثورة كخلفية: بين العدالة والانتقام
- حريق القاهرة: البداية الرمزية:تفتتح الرواية بمشهد حريق القاهرة (26 يناير 1952) الذي يشهده عيسى فزعاً، وهو الحدث الذي يُعدّ الشرارة التي مهّدت لثورة يوليو. يُصوّر محفوظ الحريق كـ "كرة اللهب تحرق كل شيء... إنها تنتحر"، رمزاً لانهيار النظام القديم .
- تطهير أم تصفية؟:تُظهر "لجنة التطهير" في الرواية التناقض بين شعارات الثورة وممارساتها. فبينما يُفترض أن تحقق العدالة، تتحول إلى أداة انتقامية تُقصي الخصوم دون تمييز بين المذنب والبريء، مما يُثير تساؤلاتٍ عن شرعية التحول الثوري .
- الصراع الأيديولوجي:يُبرز الحوار بين عيسى وابن عمه "حسن" (الضابط المؤيد للثورة) صراع الأجيال: الإصلاح مقابل الثورة. يقول حسن: "هذا القديم كله يجب أن يُجتث من جذوره"، بينما يحذّر عيسى من "دعوة الهدم الخطيرة" .
3. الأبعاد الفلسفية: الوجودية والاغتراب
- البحث عن المسكن المفقود:يُكرر عيسى عبارة "ما أحوجني إلى مسكن"، التي تُصبح عنواناً لأزمته الوجودية. "المسكن" هنا ليس مكاناً مادياً، بل انتماءً يُحرّر الإنسان من عرائه الروحي. هذه الفكرة توازي معاناة "سعيد مهران" في "اللص والكلاب"، مما يؤكد أن الاغتراب سمة مركزية في أدب محفوظ .
- العبث والموت الرمزي:يرى عيسى أن الحياة بعد الثورة صارت "عبثاً"، ويُعلّق محفوظ: "إننا نجرب الموت – ونحن لا ندري – مراتٍ ومراتٍ في أثناء حياتنا". يُصبح الموت هنا رمزاً لفقدان الدور والمعنى، لا فقدان الجسد .
- الخطيئة والعقاب:تُقدّم الرواية سقوط عيسى كـ "خطيئة آدمية": أكل من تفاحة الفساد السياسي، فطُرد من جنة السلطة. يقول: "نقلب أيدينا في الظلام يملؤنا الشجن والشعور بالإثم"، مما يربط مصيره بمأساة إنسانية كونية .
4. الأسلوب الأدبي: بين الواقعية والرمزية
- اللغة كمرآة للواقع:تُوصف لغة محفوظ في الرواية بأنها "سهلة كالشارع"، لكنها قادرة على التعبير عن التعقيد. يرى الناقد "رجاء النقاش" أن بساطتها قوة لا ضعف، لأنها تنقل تاريخ الناس لا النخب .
- المونولوج والتحليل النفسي:يعتمد السرد على تيار الوعي الداخلي لعيسى، الذي يُحاور نفسه بمرارة: "أهو العقل أم القلب الذي يتكلم؟". هذا الأسلوب يكشف تناقضاته: اقتناعه العقلي بعدالة الثورة، ورفضه القلبي لنتائجها .
الرمزية المتعددة:
السمان والخريف: العنوان يشير إلى الطيور المهاجرة في فصل الانحسار، رمزاً لفقدان الاتجاه والضياع.
ريري: فتاة الليل التي تحمل من عيسى ثم يُنكر ابنتها، تمثل الفئات المهمشة التي تدفع ثمن تحولات التاريخ.
تمثال سعد زغلول: يُختتم الرواية بلجوء عيسى إليه، رمزاً لانهيار أحلام جيل الثورة الأولى .
5. الثورة والسياق التاريخي: قراءة نقدية
- انهيار نظام 1919:تُصوّر الرواية أفول حزب الوفد كنهاية لنظام سياسي بأكمله. يُذكر أن إلغاء معاهدة 1936 مع بريطانيا كان الشرارة التي فجّرت غضب الشارع، مما جعل السلطة "ملقاة في الشوارع" – وفق تحليل المؤرخ طارق البشري الذي استشهدت به الرواية ضمناً .
- النخب بين التكيّف والرفض:يُظهر أصدقاء عيسى استجابات مختلفة للثورة:
عباس وإبراهيم: ينضمّان للركب الجديد بالتزلف.
سمير: يتجه للتصوف هرباً من الواقع.
عيسى: يرفض الاندماج، فيتحول إلى نموذج للإنسان "المطهر" المُقصى .
- الثورة كـ"وثبة تاريخية":يرى محفوظ أن الثورات "تنسى مخلوقاتها التي تحملها فوق ظهرها" أثناء وثبتها. هذا التصوير ينتقد تجاهل الثورة لمصائر الأفراد، حيث يصبحون مجرد "زائدة دودية" في جسد الدولة الجديد .
6. النقد والتراث: موقع الرواية في مشروع محفوظ
- ثلاثية ما بعد الثورة:تُشكل "السمان والخريف" مع "اللص والكلاب" (1961) و"ثرثرة فوق النيل" (1966) ثلاثيةً غير معلنة، تُوثّق مراحل الاحتجاج على نظام ما بعد 1952: من اغتراب الفرد إلى سخرية المثقفين .
رؤية النقاد:
سوسن حماد: ترى أن محفوظ "كاتب سياسي بالدرجة الأولى... مهما بدا رأيه مسرّباً في ثنايا فنّه الماكر".
جابر عصفور: يشيد بعالمه الروائي "بالغ الغنى في تعقّد مستوياته" بين الرمز والواقع .
- الواقعية الوجودية:يجمع محفوظ بين واقعية التفاصيل (كوصف أحياء القاهرة) والعمق الوجودي (أزمة المعنى)، في مزيجٍ أطلق عليه النقاد "الواقعية الوجودية"
الرواية كسيرة خلود أدبي
"السمان والخريف" ليست مجرد سردٍ لسقوط سياسي، بل هي استعارةٌ كبرى عن إحباطات الإنسان أمام تحولات التاريخ. لقد نجح محفوظ في تحويل عيسى الدباغ من شخصيةٍ تاريخيةٍ إلى نموذجٍ إنسانيٍّ خالد: الضائع في منفى وطنه، الخاسر في معركة الزمن، الباحث عن "مسكن" روحي في عالمٍ يرفض من لا ينتمي إلى قطاره المسرع.
هذه الرواية، برغم مرور أكثر من ستة عقود على صدورها، تظل مرآةً لواقعنا العربي: فأسئلة الثورة والعدالة، اغتراب المغلوبين على أمرهم، وصدام الأجيال، ما زالت تلقي بظلالها على الحاضر. وكما علّق أحد القراء: "ستجد نفسك في بعض سطورها، ستهاتفك كلماتها ليلاً" . في هذا الإحساس بالتماهي مع المأساة، يكمن سرّ خلود الأدب العظيم
0 تعليقات