الطريق

 


 "الطريق" لنجيب محفوظ

رحلة البحث عن الذات

تُمثل رواية "الطريق" (1964) للأديب المصري نجيب محفوظ (1911-2006) علامة فارقة في مسيرته الإبداعية، لا كعمل روائي فحسب، بل كاستكشاف عميق لأزمات الوجود الإنساني في عالم متشظٍّ. تكتب الرواية سيرة بطلها "صابر" في رحلته من الإسكندرية إلى القاهرة بحثاً عن أبيه المجهول، لكنها تتجاوز السرد الواقعي لتصبح مرآة تعكس صراع الإنسان بين الخير والشر، والبحث عن الهوية في مجتمع يبتلع الفردانيَّة.

السياق التاريخي والأدبي للرواية

ظهرت "الطريق" في منتصف ستينيات القرن العشرين، وهي مرحلة حاسمة في تطور محفوظ الفني. بعد إتمامه "الثلاثية" (1956-1957) التي مثلت ذروة الواقعية الاجتماعية، دخل في صمت إبداعي استمر سنوات، ليعود بأعمال اتسمت بالرمزية والتعقيد الفلسفي، ومنها "اللص والكلاب" (1961) و"الطريق" (1964) و"ثرثرة فوق النيل" (1966). كانت مصر في تلك الفترة تعيش تداعيات ثورة 1952 وتصارع هويتها بين الماضي الاستعماري ومستقبل غير واضح المعالم. وكما يذكر النقاد، فإن روايات هذه المرحلة تميزت بنقد سياسي واجتماعي مبطّن، رغم أن "الطريق" تبدو الأكثر تحرراً من الإسقاطات السياسية المباشرة، منصبةً على القضايا الوجودية للإنسان .

 رحلة من الوعد إلى الهاوية

تبدأ الرواية بوفاة "بسيمة عمران"، أم البطل "صابر"، التي تكشف له قبل موتها أن والده "سيد الرحيمي" – رجل ثري ونافذ – ما زال حياً، وتوصيه بالبحث عنه في القاهرة ليعيش في كنفه. ينتقل صابر من الإسكندرية إلى العاصمة، حيث يقيم في فندق يملكه عجوز اسمه "عم خليل" متزوج من "كريمة" الشابة الفاتنة. سرعان ما ينشأ علاقة محرمة مع كريمة، تمثل بداية انحرافه الأخلاقي. في المقابل، يلتقي بـ"إلهام"، الفتاة العاملة في الصحافة التي تساعده بنشر إعلان للبحث عن والده، وتمثل نموذجاً للحب الطاهر.

يتصاعد الصراع الداخلي لصابر بين جاذبية كريمة (التي تمثل طريق الشهوة والشر) وإلهام (التي تجسد طريق النقاء). تحت تأثير كريمة، يقدم صابر على قتل عم خليل طمعاً في المال والحرية، ثم يهرب معها. لكن العدالة تلاحقهما، حيث تقبض الشرطة عليهما وينتهي مصير صابر بالسجن أو الإعدام (المصادر تختلف حول التفاصيل الدقيقة للنهاية)، بينما يهرب مع كريمة لكنهما يُقبض عليهما لاحقاً .

الشخصيات: رموز لأزمة الوجود الإنساني

  • صابر سيد الرحيمي: ليس مجرد شاب تائه، بل تجسيد للإنسان الباحث عن أصل وجوده. اسمه "صابر" يحمل دلالة ساخرة على افتقاده الصبر والحكمة. شخصيته "مزدوجة، غير مسؤولة، مضطربة، حالمة وواهمة" كما يصفها أحد النقاد . سعيه نحو الأب الثري يعكس الوهم بأن الهوية والخلاص يأتيان من الخارج (السلطة/المال/النسب)، لا من الداخل.

  • إلهام وكريمة: الثنائية الأزلية للأنوثة والوجود

    • إلهام: الصحفية العاملة، تمثل الحب النقي، الجهد المشروع، وقيم التضحية. هي "نموذج الحب الطاهر والسمو الإنساني" . وجودها يلمح لإمكانية الخلاص عبر العمل والأخلاق.

    • كريمة: الزوجة الخائنة، تجسد الشهوة، الغواية، والطريق السهل نحو الجريمة. هي "نموذج الخيانة واللذة الحسية" . علاقتها بصابر تمثل سقوط الإنسان عندما يستبدل السعي بالاستسلام للرغبات.
      هذا الثنائي لا يعكس صراعاً أخلاقياً فحسب، بل يمثل انقسام الذات البشرية بين الروح والمادة، المثالية والواقعية، السماء والأرض .

  • الأب (سيد الرحيمي): الغائب الحاضر في الرواية. رمز للأب الميتافيزيقي (الله/الأصل/السلطة) الذي يبحث عنه الإنسان ليخلصه من العوز والضياع. اكتشاف صابر في النهاية أن أباه "ليس بالشخص المثالي... بل رجل أناني ومستغل"  يحمل رسالة مفادها أن الخلاص لا يأتي من التعلق بسلطة خارجية وهمية.

الأبعاد الرمزية والفلسفية: البحث عن المطلق في عالم نسبي

  • الطريق كرمز مركزي: العنوان ليس مكانياً فحسب، بل هو استعارة لمصير الإنسان واختياراته الوجودية. كل مفصل في حبكة الرواية يمثل منعطفاً في "طريق" صابر: من البحث المشروع عن الأب، إلى الانزلاق نحو الجريمة. النهاية المأساوية تؤكد أن "طريق الشر يدفع الإنسان إلى الهلاك" .

  • البحث عن الأب = البحث عن المعنى: تحول رحلة صابر من مهمة واقعية (إيجاد والد) إلى استعارة لفقدان الهوية في العالم الحديث. الأب هنا ليس فرداً بل "رمزاً للبحث عن الإله، عن الحقيقة الماورائية المطلقة" . فشل صابر في العثور على خلاص عبر "الأب" يلمح لفشل المشاريع الميتافيزيقية في عصر ما بعد الدين.

  • الصراع بين الخير والشر: داخل الإنسان أولاً: الصراع ليس خارجياً بين إلهام وكريمة، بل هو معركة داخل وعي صابر. الرواية توضح أن "الطريق السهل المليء بالضلال والشهوات يؤدي إلى السقوط، بينما طريق الخير الذي يحتاج لجهد يمنح السعادة الحقيقية" . السقوط ليس قدراً بل نتاج اختيار.

  • رسالة الالتزام مقابل الهروب: على مستوى فلسفي أعمق، تقدم الرواية نقداً للحلول الفردانية والهروب من المسؤولية. محفوظ يؤمن – كما في "الشحاذ" و"ثرثرة فوق النيل" – أن "القلق الوجودي لا علاج له إلا بالانغماس في الجهد البشري" . إلهام تمثل هذا الالتزام، بينما تمثل كريمة الهروب عبر المتعة.

التقنيات السردية والأسلوبية: تحولات ما بعد الواقعية

  • الانزياح من الواقعية إلى الرمزية: تخلى محفوظ هنا عن التفاصيل الواقعية المفرطة التي ميزت "الثلاثية"، لصالح لغة مكثفة غنية بالاستعارات والرموز (الطريق، الأب، الشخصيات النموذجية). الوصف لا يهدف لتوثيق المكان بل لخلق أجواء نفسية وفلسفية.

  • تعدد الضمائر وتيار الوعي: استخدام محفوظ لضميري المخاطب والغائب بشكل تناوبي  ليس تقنية شكلية، بل أداة لكشف الأعماق النفسية لصابر. الانتقال بين الضمائر يخلق مسافة نقدية أحياناً، وتقارباً عاطفياً أحياناً أخرى. كما تظهر مقاطع "تيار الوعي" لتعريفة أفكار صابر غير المُعلنة:

    "وقال إنه ابتداء من اليوم سيعرف الحياة على حقيقتها، إنه وحيد بلا مال ولا عمل ولا أهل..." .

  • الحوار ككاشف للتناقضات: حوارات صابر مع كريمة (المليئة بالإغراء والتبرير) ومع إلهام (المحتشمة المليئة بالأمل) تكشف تناقضات شخصيته أكثر مما تفعل الأفعال.

  • النهاية المفتوحة/المغلقة: رغم أن الرواية تنتهي باعتقال صابر (أو إعدامه حسب بعض التفسيرات)، فإن العبارة الختامية "فهز منكبيه قائلاً: فليكن ما يكن"  تحمل استسلاماً يعيد طرح السؤال: هل تحرر صابر بقبوله المصير، أم سقط في اللامبالاة؟

"الطريق" في سياقها الثقافي: رسالة لا تزال حية

بعد ستين عاماً على نشرها (1964-2024)، تظل "الطريق" عملاً راهناً لأنها تتجاوز سياقها التاريخي. بينما روايات معاصرة لها (مثل "ثرثرة فوق النيل") ارتبطت بنقد نظام عبد الناصر، ركزت "الطريق" على أسئلة كونية: معنى الهوية، صراع الأخلاق والرغبة، مسؤولية الفرد عن اختياراته. رسالتها المحورية – أن "الحرية والكرامة والسلام لا تتنزل هدية من السماء، بل تُكتسب على الأرض عبر الجهد البشري"  – تتعارض مع خطابات الخلاص السحرية الدينية أو السياسية.

على المستوى الفني، مثلت الرواية نضجاً في تحول محفوظ من رواية الحيز الاجتماعي إلى رواية الوعي الإنساني، مما أثر في أجيال لاحقة من الروائيين العرب الذين استلهموا تقنياتها في المزج بين التشويق والعمق الفلسفي.

 في متاهات الذات الإنسانية

رواية "الطريق" ليست مجرد قصة شاب قتل من أجل امرأة. إنها خرائط متداخلة لطريقين: طريق خارجي من الإسكندرية إلى القاهرة إلى السجن، وطريق داخلي من البراءة إلى الخطيئة، ومن البحث عن المنقذ إلى مواجهة المسؤولية. نجيب محفوظ، عبر شخصيات هي أقرب إلى الرموز الأفلاطونية (صابر التائه، إلهام الملاك، كريمة الشيطان، الأب الإله الغائب)، يطرح سؤالاً لا يموت: كيف نخلق معنى لوجودنا في عالم لا يقدم إجابات جاهزة؟ الرواية لا تقدم حلولاً سهلة، لكنها تشير إلى أن "الطريق" الصعب – طريق العمل والالتزام والأخلاق – رغم وعورته، هو الوحيد الذي لا يؤدي إلى الهاوية. ربما في هذا تكمن خلودها: إنها مرآة لقارئها، تعكس اختياراته ومصيره المحتوم، الذي يصنعه بيديه خطوة بخطوة

إرسال تعليق

0 تعليقات