"تغريبة بني حتحوت إلى بلاد الشمال" لمجيد طوبيا
الرواية وسياقها التاريخي
"تغريبة بني حتحوت إلى بلاد الشمال" هي رواية تاريخية للكاتب المصري مجيد طوبيا، صدرت عام 1988 عن دار الشروق بالقاهرة. تعد الجزء الأول من سلسلة "تغريبة بني حتحوت" التي تضم أربعة أجزاء، وتُعتبر من أبرز الأعمال الأدبية العربية في القرن العشرين، حيث اختارها اتحاد الكتاب العرب ضمن قائمة أفضل 100 رواية عربية. تدور الأحداث في مصر خلال أواخر عصر المماليك وبداية الحكم العثماني (نهايات القرن الثامن عشر)، وتحديداً في الفترة التي سبقت وخلال الحملة الفرنسية على مصر (1798–1801). تستلهم الرواية تراث السير الشعبية العربية، خاصة "سيرة بني هلال"، لكنها تدمجها بتقنيات روائية حديثة لتصوّر معاناة الشعب المصري تحت حكم المماليك والاحتلال الفرنسي .
الشخصيات المحورية والأطر السردية
عائلة حتحوت:
رضوان بن حتحوت: بطل الرواية المركزي، يُوصف بأنه "أجمل أطفال القرية" لكن جماله يتلاشى مع الزمن. تدفعه والدته لتعلّق تميمة مثلثة الشكل لتحميه من الحسد، وتزوجه لاحقاً من "أم الخير" بعد تردد طويل .
أم الخير: الفتاة التي أحبها رضوان، تمتاز بجمالها "الرّدي الوجنتين، كحيلة الطرف، سوداء العينين"، ومهاراتها في الطهي والنسيج. تبيع منسوجاتها في المدينة لتدخر مالاً، مما يعكس دور المرأة الاقتصادي في المجتمع الريفي .
مرسي رمضان حتحوت: الابن الوحيد لرضوان وأم الخير، يظهر كشخصية ثائرة ضد الظلم، على عكس أبيه الحذر.
شخصيات تاريخية وسياسية:
الملتزمون (جباة الضرائب): يمثلون استغلال النظام الحاكم، حيث يجبرون الفلاحين على دفع ضرائب باهظة.
المماليك: يُصوّرون كحكام مستبدين، مثل "البك الملتزم" الذي يموت مذبوحاً على يد الفلاحين.
نابليون بونابرت وجنرالاته: يظهرون خلال أحداث الحملة الفرنسية، ويُشار إلى نابليون بلقب "الساري عسكر" .
الأحداث الرئيسية والتحولات الدرامية
الجزء الأول: الحياة في قرية "تلة" بالمنيا
تبدأ الرواية في قرية صغيرة بصعيد مصر تُدعى "تلة"، حيث تعيش عائلة حتحوت حياة بسيطة قائمة على الزراعة. تشكّل علاقة الحب بين رضوان وأم الخير نواة السرد، لكن هذه الحياة الهادئة تتحول إلى جحيم مع:
جور الملتزمين: يجبر جباة الضرائب الفلاحين على دفع مبالغ طائلة، مما يدفع بعضهم مثل "عوض ومدكور" إلى التسول في المنيا بعد فقد أراضيهم.
ثورة الفلاحين: يثور مرسي وأبناء قريته على الظلم، وينتهي الأمر بمقتل البك الملتزم ذبحاً، مما يُجبر العائلة على الفرار شمالاً هرباً من الملاحقة .
الجزء الثاني: رحلة الهروب إلى الشمال
تهرب العائلة عبر النيل بقوارب التجار متجهة إلى أسيوط ثم الفيوم، وتواجه خلال الرحلة:
أهوال الطريق: من اعتداءات قطاع الطرق إلى الأمراض والمجاعات.
التفاعل مع المدن: تصادف العائلة تنوعاً مجتمعياً في المناطق الحضرية، حيث تلتقي بالمسلمين والأقباط والتجار الأجانب، مما يكشف عن التعددية الثقافية لمصر آنذاك.
الجزء الثالث: الحملة الفرنسية وثورات القاهرة
تصل العائلة إلى القاهرة مع اجتياح الحملة الفرنسية، لتصبح الأحداث تاريخية بالكامل:
اجتياح نابليون: تُصوّر معركة الأهرامات وسقوط المماليك، مع إشارات دقيقة لمصطلحات تاريخية مثل "الوجاقلية" (جنود الإنكشارية) و"الغليونجية" (الفرنسيين)، كما وردت في كتابات المؤرخ الجبرتي التي استند إليها طوبيا .
ثورة القاهرة الأولى (1798): يشارك أبطال الرواية في بناء المتاريس داخل الأزهر، لكن الفرنسيين يقمعون التمرد بقصف الجامع الأزهر بالمدافع، مما يُحدث صدمة عميقة لدى الشخصيات.
مقتل كليبر: تُذكر حادثة اغتيال القائد الفرنسي كليبر على يد سليمان الحلبي كحدث تاريخي تتفاعل معه الشخصيات بالفرح .
الجوانب الفنية والرمزية في الرواية
1. اللغة والأسلوب السردي:
اللغة الهجينة: تجمع بين الفصحى والعامية المصرية، مع استخدام مصطلحات تاريخية مثل "فرط الرمان" (مساعد نابليون).
الحكاية الشعبية: يسرد طوبيا الأحداث بلسان "الراوي" التقليدي، مستخدماً أمثالاً شعبية مثل: "أيش تاخد يا برديسي من تفليسي" لتعكس حكمة الشعب المصري .
2. الرمزية التاريخية:
تغريبة بني حتحوت: تشير إلى "التغرب" القسري عن الوطن، وهي رمز لهجرات المصريين المتكررة بسبب الظلم.
الصراع بين الفأر والقط: يُستهلّ الكتاب بعبارة "تسلط الفأر على القط وركوع الأسد للقرد"، كاستعارة لفوضى الحكم وانقلاب الأدوار تحت الاستعمار .
3. البناء الدرامي:
التداخل بين التاريخي والروائي: تُمزج الأحداث الواقعية (مثل ثورات القاهرة) بمصائر الشخصيات الخيالية، حيث يُقتل مرسي في إحدى المواجهات، بينما يعود والده رضوان إلى الصعيد حاملاً جثته، في دلالة على استمرار معاناة الشعب.
السياق التاريخي والأبعاد الاجتماعية
الخلفية السياسية: تصف الرواية تدهور حكم المماليك، حيث يتصارع الأمراء على السلطة بينما يُدفع الفلاحون ثمن حروبهم عبر الضرائب المجحفة.
الحملة الفرنسية كصدمة حضارية: تُصوّر المفارقة بين ادعاء الفرنسيين نشر "الحضارة" وبين وحشيتهم في قمع الثوار، مثل قتلهم لمحمد كريم (حاكم الإسكندرية) الذي أصبح رمزاً للمقاومة .
النسيج الاجتماعي: تكشف الرواية عن:
دور المرأة في الاقتصاد الريفي (مثل بيع أم الخير للمنسوجات).
التضامن الشعبي في الأزمات (مساهمة القرويين في دفع ضرائب بعضهم).
الصراع الطبقي بين الفلاحين والنخبة الحاكمة.
المكانة الأدبية وتأثير الرواية
جوائز التكريم: نال مجيد طوبيا عنها جائزة الدولة التشجيعية (1979) وجائزة الدولة التقديرية (2014)، كما حصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى .
دراسات نقدية: كُتبت عنها أبحاث في جامعات السوربون وروما ووارسو، كما ناقشها نقاد مثل عبد القادر القط وصلاح فضل .
مقارنة مع أعمال أخرى: تشبه روايات خيري شلبي في استخدام اللهجة الشعبية وتصوير الريف المصري، لكنها تميزت بتوثيقها الدقيق لفترة الحملة الفرنسية، وهو ما جعلها مرجعاً أدبياً لتلك الحقبة .
الرواية كمرآة لتاريخ الشعب
"تغريبة بني حتحوت" ليست مجرد سرد لمغامرة عائلة، بل هي ملحمة مقاومة ضد الاستبداد الداخلي والاحتلال الخارجي. من خلال دمج التراث الشعبي بالوثيقة التاريخية، نجح طوبيا في تقديم رواية تُعيد الاعتبار لـ"التاريخ من أسفل"، حيث يصبح الفلاحون البسطاء أبطالاً لحكاية لم يروها المؤرخون الرسميون. تُختتم هذه الجزء بعودة رضوان إلى المنيا حاملاً جثة ابنه، في إشارة إلى أن التغريبة لم تنتهِ، بل ستستمر في الأجزاء التالية (إلى بلاد الجنوب، البحيرات، بلاد سعد) كاستعارة للألم المصري الممتد عبر العصور .
"كانت هنا قرى وطيور وأحلام، ناس طيبون بسطاء، وحكام مغفلون سفهاء،
قضت عليهم مدافع محمد علي كما قضت مدافع بونابرت على غفلة مماليك مصر
0 تعليقات