ميرامار

 


ميرامار لنجيب محفوظ

مرآة المجتمع المصري في مرحلة التحول 

 رواية "ميرامار" (1967) للأديب العالمي نجيب محفوظ (الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1988) واحدة من أبرز الأعمال الأدبية التي توثق التحولات الاجتماعية والسياسية الجذرية في مصر خلال حقبة الستينيات، وخاصة في أعقاب ثورة يوليو 1952 وقوانين الاشتراكية الصادرة عام 1961. تدور الأحداث داخل فضاء مغلق هو "بنسيون ميرامار" في الإسكندرية، وهو فندق صغير تديره السيدة "ماريانا" اليونانية الأصل، ليشكل هذا المكان المحدود مسرحاً لصراع الأفكار والطبقات ورمزاً مصغراً لمصر كلها .

1. الإطار الزمكاني وبنية الرواية الفنية: أكثر من مجرد حكاية

  • المكان المحوري (البنسيون كرمز): يمثل بنسيون ميرامار الإسكندري، الواقع قرب محطة الرمل، عالمًا مصغرًا للمجتمع المصري. فهو ملاذ للغرباء والمهمشين والهاربين من ماضٍ ثقيل، يجمع بين جدرانه شخصيات متنافرة تعكس تناقضات الواقع المصري: الإقطاعي السابق، المثقف الثوري، الفلاحة الهاربة، والانتهازي الطامح. إنه فضاء للالتقاء والاصطدام في آن واحد .

  • الزمن السياسي والاجتماعي: تلتقط الرواية لحظة تاريخية حساسة في مصر، حيث هيمنت تداعيات ثورة 1952 والقوانين الاشتراكية (مثل تأميم الأراضي والثروات) على المشهد. تعكس حيرة الشخصيات وخيبات أملها تقلبات هذه المرحلة وتأثيرها المباشر على الأفراد والطبقات، من الإقطاعيين الذين صودرت أملاكهم إلى المثقفين الثوريين المخدوعين .

  • تقنية تعدد الأصوات السردية (الرؤية المتعددة): تُعد الابتكار الأبرز في "ميرامار". لا تُروى الأحداث من منظور راوٍ واحد عليم، بل تُسرد عبر أربعة رواة (بضمير المتكلم) يمثلون شرائح اجتماعية وفكرية مختلفة:

    • عامر وجدي: الصحفي الثمانيني المتقاعد، شاهد على ثورة 1919، رمز الجيل القديم المثالي الذي يعيش على ذكريات المجد والخيبة .

    • حسني علام: الإقطاعي الشاب المترف، القادم من طنطا، الخائف من مصادرة أراضيه (100 فدان)، الساخر العابث الذي يمثل طبقة تعيش في رعب من زوال الامتيازات .

    • منصور باهي: الإعلامي الشاب الشيوعي السابق، الهارب من الاعتقال في القاهرة، الحائر بين مبادئه وضغوط الواقع، والذي يمثل المثقف الثوري المخذول .

    • سرحان البحيري: الشاب الريفي (صاحب 4 أفدنة) الطموح والانتهازي، الذي تحول من الوفد إلى الاتحاد الاشتراكي سعياً للمنفعة، ويمثل البرجوازية الصغيرة المتسلقة التي تستغل التحولات السياسية .
      هذه التقنية تسمح للقارئ برؤية الأحداث نفسها (وشخصية زهرة المركزية) من زوايا متعددة، مما يخلق صورة "ستريوسكوبية" معقدة وغنية للواقع، ويبرز تناقضات الحقبة بشكل أدق من أي سرد أحادي .

2. شخصيات الرواية: تشريح لنفسية المجتمع المصري

تتحرك في فضاء "ميرامار" مجموعة من الشخصيات الرئيسية والثانوية، تشكل كل منها نموذجاً لشرائح اجتماعية وسياسية محددة:

  • زهرة سلامة (الفتاة الريفية): ليست مجرد بطلة روائية، بل هي الرمز الأكبر في العمل. فهي الفلاحة الجميلة من قرية الزيادية بالبحيرة، التي هربت من قسوة جدها الذي أراد تزويجها لعجوز مقابل المال. تصل إلى البنسيون طالبة عملاً شريفاً. تمتلك زهرة قوة جسدية ونفسية فائقة ("أكون رجلاً عند الضرورة")، وذكاءً حاداً، وأنفة ترفض الظلم. جمالها "الريفي الأصيل" يجعلها مطمعاً لجميع الرجال في البنسيون. قرارها بتعليم نفسها (القراءة، الكتابة، ثم الخياطة) بمساعدة معلمتها "علية"، ورفضها العودة للقرية رغم ضغوط أختها وزوجها ("أنا حرة ولا شأن لأحد بي... لن أرجع ولو رجع الأموات")، وتحملها للتحرشات ودفاعها عن كرامتها (بصفعها طلبة مرزوق وحسني علام وسرحان)، يجعلها تجسيداً لمصر الشابة، الطموحة، الجميلة، المكافحة من أجل الحرية والكرامة ضد قوى الاستغلال والتخلف. رحيلها في النهاية بعد طردها من البنسيون – دون يأس – للبدء من جديد، يرمز لأمل مصر في مستقبل أفضل .

  • طلبة مرزوق (الإقطاعي المخلوع): وكيل وزارة الأوقاف السابق، أحد "عتاة الملكية" الذي صودرت أمواله ووُضع تحت الحراسة. جاء إلى ميرامار هرباً من الذل في القاهرة، ولجأ إلى عشيقته القديمة ماريانا. يمثل طبقة الإقطاع التي سحقتها الثورة، يحمل مرارة وهزيمة داخلية، ويحاول استعادة شيئ من سلطته عبر التحرش بزهرة .

  • السيدة ماريانا (صاحبة البنسيون): المرأة اليونانية العجوز (65 عاماً) التي عاشت في مصر وشهدت ثوراتها (مات زوجها الأول في ثورة 1919). تمتلك البنسيون، وتربطها علاقة قديمة بعامر وجدي وطلبة مرزوق. تمثل بقايا الوجود الأجنبي والماضي الاستعماري، وهي التي تطرد زهرة في النهاية معتبرة إياها مصدراً للشقاء، في إشارة رمزية لقوى خارجية تعيق تقدم مصر .

  • شخصيات ثانوية دالة: مثل محمود أبوالعباس (بائع الصحف) الذي يخطب زهرة لكنها ترفضه لاحتقاره النساء ("كل امرأة حيوان لطيف بلا عقل ودين")، وعلية (معلمة زهرة) التي تتزوج سرحان لتنقذه لكن زواجهما يفشل، مما يضيف أبعاداً أخرى لصورة المرأة وقضاياها .

3. الصراع المحوري: زهرة في مواجهة قوى الاستغلال والوهم

تتحول "زهرة" داخل البنسيون إلى محور جذب وقوة جاذبية لصراعات خفية:

  • صراع الرغبات: كل شخصية تريد "امتلاك" زهرة بشكل يعكس رؤيتها لها ولمصر:

    • طلبة مرزوق وحسني علام: ينظران إليها كجسد للمتعة (خليلة أو عاهرة)، يمثلان النظرة الإقطاعية أو البرجوازية المتعالية للمرأة والوطن كمصدر لمنفعة ذاتية.

    • منصور باهي: يعرض عليها الزواج في لحظة يأس وهروب من مبادئه، لتصبح "ملاذاً" وخلاصاً فردياً له، يمثل استغلال المثقف المثالي المضطهد للوطن/المرأة كملجأ.

    • محمود أبوالعباس: يريدها زوجة لتصير "ربة بيت" تحت سلطته، ممثلاً النظرة الذكورية التقليدية المتسلطة.

    • سرحان البحيري: الوحيد الذي تربطه بها علاقة حب حقيقية (في البداية)، لكنه يخونها وينتهزها (كما خان الثورة) سعياً وراء منفعة أعلى (الزواج من "علية" المثقفة صاحبة المكانة). خيانته لها وانتحاره لاحقاً بعد فشل صفقاته الفاسدة، رمز لفشل البرجوازية الصغيرة الانتهازية وطموحاتها الزائفة في قيادة التغيير .

  • صراع القيم: يمثل البنسيون ساحة لتصادم القيم: قيم القرية (الأصالة، الشرف، العمل الجاد) ممثلة في زهرة، ضد قيم المدينة (الانتهازية، العبث، النفاق) ممثلة في سرحان وحسني. قيم الثورة المثالية (عند منصور وعامر وجدي) ضد قيم الإقطاع البائدة (طلبة) أو الخائفة (حسني). قيم التحرر والتعلم (زهرة) ضد قيم القمع والجهل (الجد، محمود) .

4. الرمزية: ما وراء الشخصيات والأحداث

  • زهرة = مصر: هذا التماهي هو العمود الفقري للرمزية في الرواية. هروبها من الاستغلال العائلي (الاستعمار/التخلف الداخلي)، جمالها وقوتها (إمكانات الوطن)، جاذبيتها لكل القوى (مطامع الخارج والداخل)، تعرضها للتحرش والخيانة (استغلال ثرواتها ونضال شعبها)، قرارها بالتعلم وبناء الذات (سعي الأمة للنهضة)، وإصرارها على الاستمرار رغم الطرد (أمل مصر في التحرر الحقيقي والبناء) .

  • بنسيون ميرامار = مصر: الفندق الصغير بجنسيات ونزعات ساكنيه (السيدة اليونانية، المصريون المتنوعون) هو مصر في صورة مصغرة. تديره أجنبية (بقايا الهيمنة الخارجية)، وتجري داخله كل الصراعات الطبقية والسياسية والفكرية المصرية. انغلاقه النسبي يعكس عزل مصر النسبية أو خصوصية مشاكلها، بينما انفتاحه على الإسكندرية (مدينة البحر المنفتح) يرمز لإمكانية الانفتاح على العالم .

  • السيدة ماريانا = القوى الخارجية: المرأة الأجنبية صاحبة السلطة على المكان، التي تستضيف الجميع لكنها تطرد زهرة (مصر الشعب) في النهاية معتبرة إياها مصدر المشاكل، ترمز للقوى الأجنبية التي تحتضن النخب لكنها ترفض أو تعيق التغيير الجذري الذي تمثله زهرة/الشعب .

  • الإسكندرية = الأمل والانفتاح: اختيار الإسكندرية، المدينة المتوسطية المنفتحة تاريخياً، وليس القاهرة، مسرحاً للأحداث، ليس اعتباطاً. إنها ترمز لأفق الانفتاح، الثقافي والفكري، الذي قد تتجه إليه مصر، وللحلم بمستقبل مختلف عن صخب العاصمة وصراعاتها المركّزة .

5. الرسالة السياسية والاجتماعية: نقد لاذع ورؤية متشائمة جزئياً

  • نقد ما بعد الثورة: تقدم "ميرامار" نقداً مريراً لمسار ثورة 1952. فمن خلال حوارات الشخصيات (خاصة عامر وجدي العجوز الذي شهد ثورة 1919) ومصائرها، يظهر أن الثورة، رغم إنجازاتها في كسر شوكة الإقطاع، قد قيدت الحريات وأفرزت طبقة جديدة من الانتهازيين (مثل سرحان) واستبدلت استغلالاً بآخر. عبارة عامر وجدي: "لقد سلبت البعض أموالهم والجميع حريتهم" تلخص هذا النقد .

  • تحذير من البدائل: في حوار عميق، يطرح أحد الشخصيات (سرحان) السؤال المقلق: "البعض يضيقون بالثورة، ولكن أي نظام يمكن أن يحل محلها؟... فإما الشيوعية، وإما الإخوان". ثم يضيف بدهاء: "بل يوجد بديل ثالث!... أمريكا!... عن طريق يمينيين معقولين، لما لا؟". هذا الحوار يعد استشرافاً مبكراً من محفوظ للمآلات السياسية المحتملة لمصر، ويعكس تشاؤمه من جودة البدائل المتاحة في ذلك الوقت .

  • دور المرأة وصراع التغيير: تقدم زهرة نموذجاً للمرأة المصرية القوية، المكافحة، الرافضة للاستسلام والاستغلال، الساعية للتعلم والاستقلال الاقتصادي والمعنوي. صراعها داخل البنسيون هو صراع المرأة (والطبقات الكادحة) ضد منظومة ذكورية/طبقية/استغلالية متجذرة. نجاحها النسبي في الصمود والتعلم، ورفضها المستمر للخضوع، يمثل رسالة أمل في قدرة المرأة (والشعب) على التغيير رغم الصعاب .

  • العبرة المركزية: تختزل الرواية عبرتها في أن "الزيف والكذب والخداع لا يبقى طويلاً ومصير أصحابه الشقاء"، كما يتبدى في مصير سرحان (الانتحار بعد فشل صفقاته الفاسدة) وحسني علام (الحيرة والضياع) ومنصور باهي (خيبة الأمل). بينما يمثل إصرار زهرة على المضي قدماً ("في كل خطوة أجد من يعرض عليَّ عملا") الأمل الوحيد في غد أفضل لمصر .

 ميرامار.. متاهة بشرية ومرآة لأمة

"ميرامار" ليست مجرد قصة عن نزلاء فندق صغير أو عن فتاة ريفية جميلة. إنها رواية-كون مُصغّر، حفر نجيب محفوظ من خلالها في الجروح العميقة للمجتمع المصري خلال حقبة مخاض سياسي واجتماعي عاصف. لقد نجح محفوظ، عبر تقنية تعدد الأصوات السردية المبتكرة والرمزية الكثيفة، في تقديم تشريح دقيق لنفسية أمة في لحظة تحول مصيري. شخصية "زهرة" تظل من أبرز الرموز الأنثوية في الأدب العربي، تجسيداً لقوة مصر وجمالها ومعاناتها وأملها في التحرر الحقيقي من كل أشكال الاستغلال الداخلي والخارجي. بينما يظل بنسيون ميرامار بجدرانه وشخصياته المتصارعة مرآة عاكسة لتحديات مصر: صراع الهوية، أزمات الحرية والعدالة، تناقضات الماضي مع إغراءات المستقبل، ودور المرأة المحوري في معركة البناء والتحرير. رغم التشاؤم الذي يلف مصائر معظم شخصيات الرواية، فإن إرادة زهرة الصلبة وإصرارها على التعلم والانطلاق من جديد، يرسل شرارة أمل أخيرة في قدرة "مصر" على اجتياز متاهاتها وبناء مستقبل كريم يليق بشعبها. بهذا العمق الفني والفكري، تظل "ميرامار" عملاً خالداً في مسيرة محفوظ وعلامة فارقة في مسار الرواية العربية

إرسال تعليق

0 تعليقات