"العائش في الحقيقة" لنجيب محفوظ
رحلة البحث عن اليقين في متاهة الحقيقة
نُشرت عام 1985 هي من الأعمال الرمزية العميقة في مسيرة نجيب محفوظ، وتندرج ضمن مشروعه الذي يستخدم الرمز التاريخي والديني لمعالجة أسئلة معاصرة عن السلطة، الحقيقة، والدين.
تدور الرواية حول شخصية أخناتون، أول من نادى بوحدانية الإله في التاريخ المصري القديم، لكنها لا تُروى من وجهة نظره، بل من خلال فتى يُدعى "مرسي يونس"، ينطلق في رحلة لسبر حقيقة هذا الرجل الذي عاش ومات في جدل لا ينتهي.
من خلال بنية سردية مستلهمة من الفن البوليفوني (تعدد الأصوات)، يضع نجيب محفوظ القارئ أمام مشكلة الحقيقة المتعددة، ويطرح سؤالًا فلسفيًا جوهريًا:
من يملك الحقيقة؟ وهل يمكن للإنسان أن يعيش بها في وجه العالم؟
البناء الفني للرواية
هذا البناء يُذكر بالأسلوب الذي استخدمه أكوتاغاوا في قصة "راشومون" وكوروساوا في فيلمه الشهير، حيث كل راوٍ يقدّم وجهة نظره الخاصة، المتناقضة أحيانًا، حول نفس الحدث.
مرسي يونس: الباحث عن الحقيقة
مرسي ليس مؤرخًا، ولا نبيًا، بل شاب أرستقراطي يهتم بالمعرفة، تشغله قصة أخناتون منذ أن رآه في قصر زوجته "نفرتيتي"، بعد أن تخلى عن عرشه واختار العزلة.
تبدأ رحلته من الفضول المعرفي وتنتهي بـ التساؤل الوجودي. وهو يمثل القارئ نفسه، الذي يسمع الروايات المختلفة عن الشخصية المحورية، ويحاول أن يُكوِّن رأيًا، لكنه ينتهي إلى اللايقين.
تعدد الشهادات: عندما تصبح الحقيقة روايات
مرسي يونس يقابل عددًا من الأشخاص الذين عاشوا في زمن أخناتون، وكل منهم يروي قصته وفقًا لتجربته:
1. الملكة الأم تيّ
ترى ابنها "أخناتون" طفلاً طيب القلب، لكنه ضعيف، وقع تحت تأثير كهنة غامضين، ودمّر المملكة بإصراره على فكرته.
2. نفرتيتي
زوجته الجميلة، التي أحبته في البداية، لكنها أدركت لاحقًا أنه لا يصلح للحكم. بالنسبة لها، هو رجل يعيش في عالم مثالي لا مكان له في الواقع.
3. حور محب
القائد العسكري، يراه خائنًا للوطن، إذ تسبب في إضعاف الجيش وانهيار الدولة، بسبب انشغاله بالدين الجديد وترك السياسة.
4. آتون رع (الكاهن)
يقدّمه كصاحب رسالة دينية، رجل متصوف ومخلص، يؤمن بوحدانية الإله آتون، ويضحي بكل شيء لأجل العقيدة.
5. الناس البسطاء
بين من رأى فيه مجنونًا، وآخرين اعتبروه نبيًا، تبقى روايات العامة متأرجحة، ولكنها تعكس صورة مجتمع حائر.
كل هذه الأصوات تُظهر كيف يمكن للحقيقة أن تُغلف بألف وجه ووجه، وأن الناس لا يرون الواقع، بل انعكاسات معتقداتهم وخبراتهم ومصالحهم.
أخناتون: النبي أم المجنون؟
أخناتون هو المحور الأساسي في الرواية، رغم أنه لا يتكلم بنفسه إلا نادرًا. هو الغائب الحاضر، الذي تدور حوله الرواية بالكامل.
يرى البعض أنه أول من دعا إلى وحدانية الإله آتون، وبالتالي فهو رائد للتوحيد. لكن الدولة والكهنة، الذين فقدوا نفوذهم، اعتبروا دعوته ثورة على النظام القائم.
نجيب محفوظ يعيد تقديم أخناتون ليس كحاكم فاشل، بل كرمز للمثالية الروحية التي تصطدم بواقع السياسة والمجتمع. في هذا السياق، أخناتون يقف على خط التماس بين:
-
النبوة والإصلاح
-
الهوس والعزلة
-
المثالية والانتحار السياسي
هو من "عاش في الحقيقة"، لكن الحقيقة التي أرادها كانت أقوى من أن تحتملها الدولة، وأضعف من أن تُفرض بالقوة.
الفكرة المركزية: الحقيقة المطلقة مقابل الحقيقة النسبية
الرواية تطرح أسئلة فلسفية عميقة:
-
هل الحقيقة واحدة أم متعددة؟
-
هل يمكن لإنسان أن يعيش في الحقيقة وحده، من دون أن يفرضها على الآخرين؟
-
هل من الأخلاقي أن يفرض الإنسان معتقده مهما بدا له صحيحًا؟
من خلال فشل أخناتون في تأسيس دولته القائمة على التوحيد، ومن خلال روايات الناس المختلفة، تُظهر الرواية أن الحقيقة في السياسة والاجتماع ليست مطلقة، بل تحكمها السياقات والتوازنات.
الرمزية والتأويلات
أخناتون = الحالم النبيل
قد يُرمز له بأي صاحب رسالة أو فكر إصلاحي (سواء كان نبيًا، مفكرًا، ثوريًا). لكنه يمثل في النهاية من يعيش في عالم مثالي، غير قادر على التكيف مع الواقع.
مرسي يونس = الباحث المعاصر
هو رمز للمثقف العصري، الذي يرفض التسليم بالتاريخ الرسمي، ويبحث عن الحقيقة في الروايات المتضاربة، دون أن يملك أدوات الحسم.
الكهنة والعسكر = السلطة والمؤسسة
يمثلون كل من يقف ضد التغيير باسم الحفاظ على النظام، ويُظهرون كيف تتكامل المصالح السياسية والدينية أحيانًا في وجه الإصلاح.
الأسلوب واللغة
اخر فصل
مرسي يونس لا يصل إلى "الحقيقة"، لكنه يصل إلى إدراك مهم:
لا يمكن إدراك الحقيقة من شهادة واحدة. كل شخص يروي الحقيقة من زاويته. والأهم من أن نعرف الحقيقة، أن نسأل: هل نحتملها؟
ينتهي مرسي بالاقتراب من أخناتون في عزلته، ويتأمل وجهه البسيط والهادئ، ويتساءل:
"أهذا وجه نبي أم وجه مجنون؟"
عن الروايه
"العائش في الحقيقة" رواية فكرية رمزية بامتياز، تستلهم التاريخ لتطرح أسئلة معاصرة عن:
-
السلطة الدينية والسياسية
-
المثالية والواقعية
-
الحقيقة والنسبية
-
الفرد والمجتمع
نجيب محفوظ لا يقدم أجوبة جاهزة، بل يدعو القارئ إلى التأمل، ويجعل من الرواية مساحة للتفكير لا للتلقين.
إنها ليست رواية عن "أخناتون" فقط، بل عن كل من حاول أن يعيش في الحقيقة ورفض أن يساوم، ودفع الثمن.
0 تعليقات