الشحاذ

 


 "الشحاذ" لنجيب محفوظ

 رحلة في دهاليز الوجود والإنسان

تعد رواية "الشحاذ" (1965) للأديب المصري نجيب محفوظ (الحائز على نوبل للأدب عام 1988) علامة فارقة في مسيرته الإبداعية وفي مسار الرواية العربية الحديثة. تمثل هذه الرواية القصيرة في حجمها، العميقة في مضامينها، انتقالاً محورياً لمحفوظ من الواقعية الاجتماعية التي جسدتها أعمال مثل "الثلاثية"، إلى آفاق وجودية وفلسفية وإبداعية أكثر تجريبية وتعقيداً. تصور الرواية أزمة الإنسان المعاصر عبر شخصية "عمر الحمزاوي"، المحامي الناجح الذي يعاني من فراغ روحي عميق ويسعى يائساً لإيجاد معنى للحياة. .

١. السياق الإبداعي والتاريخي: نقطة تحول في مسار محفوظ والفن الروائي

  • الانعتاق من قواعد الواقعية: تُجسّد "الشحاذ" ما أسماه النقاد مرحلة "المغايرة والتجاوز" في كتابة محفوظ. فهو يتجاوز هنا الأطر الواقعية والتاريخية الصارمة التي ميزت أعماله السابقة (مثل الثلاثية)، منخرطاً في "أشكال جديدة مركبة تضرب في أعماق الذات الفردية والجماعية وتحقق التعرية اللازمة" . يعترف محفوظ نفسه بأن مرحلته الواقعية التزمت قواعدَ أشبه بقواعد النحو، بينما تمثل "الشحاذ" مرحلة تحرر فني وفكري.

  • السياق السياسي والاجتماعي المصري: كُتبت الرواية في فترة حرجة من تاريخ مصر (ما بين 1962-1965)، وهي فترة اتسمت بالقمع السياسي وتصفية المعارضات في ظل حكم جمال عبد الناصر. يُلمح هذا السياق في الحديث عن السجن والاعتقال (شخصية عثمان خليل التي قضت عشرين عاماً في السجن منذ 1935 حتى 1955) . تعكس الرواية حالة من "الإفلاس المعنوي" واليأس الذي خيم على جزء من النخبة المثقفة بعد سنوات من ثورة 1952 وآمالها التي بدت مُخيّبة .

  • الانفتاح على الفلسفة العالمية: تظهر تأثيرات الفلسفة الوجودية الأوروبية (سارتر، كامو) بشكل واضح في تركيز الرواية على العبث، القلق، الحرية، والبحث عن المعنى. كما تتسلل إشراقات من الفلسفة الشرقية والصوفية في سعي البطل نحو السلام الداخلي والتجارب الروحية .

٢. جوهر الأزمة: البحث عن المعنى في عالم مادي

تدور الرواية حول عمر الحمزاوي، محامٍ خمسيني ناجح مادياً واجتماعياً (متزوج من زينب وله ابنة شابة موهوبة بالشعر هي بثينة). فجأة، دون سبب عضوي واضح، يصاب بحالة من الخمود والفتور والضجر الوجودي المدمر: "ما أفظع الضجر... الحموضة التي تفسد العواطف" . هذا "المرض" الذي يعجز الأطباء عن تشخيصه هو في الحقيقة أزمة معنى وجودية تدفعه للتساؤل: "أين مكمن الحياة الذي يبني عليه الإنسان حياته؟" . تساؤله المركزي: "ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله سيأخذنا؟"  يقلب عالمه رأساً على عقب، ويطلق رحلته اليائسة للبحث عن "سر أسرار الحياة"، عن النشوة التي تربطه بالوجود .

٣. رحلة البحث الفاشلة: التجارب ومسارات الفشل

يسلك عمر عدة مسارات في محاولته لاستعادة الإحساس بالحياة واكتشاف المعنى، تنتهي جميعها بالإخفاق والفشل الذريع، مما يعمق شعوره بالاغتراب والعجز:

  • الحب والجنس: يبدأ علاقة عابثة مع وردة، راقصة شابة، سعياً وراء الإثارة الجسدية والنشوة الحسية. سرعان ما يخبو لهيب الشهوة ("المشاعر للأسف تختفي بلا مبرر" )، تاركاً إياه في فراغ أشد قسوة، ومدمراً ما تبقى من استقرار عائلي.

  • الفن والجمال: يحاول العودة إلى كتابة الشعر (وهوايته القديمة) والانغماس في الموسيقى، طمعاً في الخلاص الجمالي. لكنه يجد أن الفن لم يعد قادراً على ملء الفراغ الروحي الهائل الذي يعانيه، بل يبدو منفصلاً عن أسئلته المصيرية.

  • التصوف والعزلة: بعد فشل المسارين المادي (الجنس) والجمالي (الفن)، ينعزل عمر في بيته، تاركاً عمله ومجتمعه، ساعياً نحو التأمل والخلوة الروحية بحثاً عن اتصال بالمطلق أو الحقيقة الإلهية ("يرمز إلى تجربة التصوف والعزلة" ). لكن العزلة لا تحرره؛ بل تطارده أطياف ماضيه (زينب، بثينة، عثمان، مصطفى) وهموم واقعه، وتنتهي محاولته هذه بإصابته بجروح (رمزيّة وجسدية) وهو يحاول الهرب، ليعود أدراجه إلى نقطة البداية المحطمة: العيادة الطبية.

٤. تشريح الشخصيات: رموز وأبعاد وجودية واجتماعية

لا تُقدّم الشخصيات في "الشحاذ" بوصفها كيانات مستقلة بقدر ما هي امتدادات لذهن البطل ورموز لأفكاره أو صراعاته، مما يجعلها أقرب إلى رواية "الصوت الواحد" أو "المونوفونية" .

  • عمر الحمزاوي: ليس مجرد شخصية روائية، بل هو رمز للإنسان الحديث المأزوم. يجسد الصراع الداخلي بين:

    • الهو (Id): الدوافع الغريزية (الجنس مع وردة).

    • الأنا (Ego): محاولات التكيف والبحث (العمل، الفن، التأمل).

    • الأنا العليا (Superego): المبادئ الأخلاقية والضمير (الشعور بالذنب، تأنيب الضمير تجاه ماضيه الثوري وزينب) .
      يمثل نموذج "المنتمي المأزوم في مجتمع فاقد للحرية والعدالة الاجتماعية" . فشله المتكرر هو فشل في التوفيق بين هذه الأبعاد المتناقضة داخل نفسه وفي التكيف مع عالم فقد معناه.

  • بثينة (الابنة): ترمز إلى ماضي عمر المثالي وإلى الموهبة الفنية (الشعر) التي تخلى عنها هو نفسه لاحقاً تحت وطأة الواقعية والانتهازية. وجودها يذكره بما كان عليه وبما تخلى عنه من مبادئ وحلم شبابي .

  • عثمان خليل: يمثل الماضي الثوري المشترك لعمر، الرفيق الاشتراكي الذي ضحى بحريته (قضى 20 عاماً في السجن) من أجل المبادئ التي تخلى عنها عمر نفسه وانغمس في الحياة البورجوازية. عودته من السجن بعد الثورة وتغير حاله (فقدان الروح الثورية؟) تدفع عمر لمواجهة خيانته لماضيه وتخليه عن مُثله .

  • مصطفى الميناوي: يجسد الانتهازية والتكيف السطحي مع الواقع. هو صديق عمر الذي اختار طريقاً وسطاً بين الفن (كتابة المسلسلات الإذاعية الترفيهية) والنجاح المادي، لكنه أيضاً تخلى عن العمق والمبادئ الراسخة. يعكس نموذجاً بديلاً للتكيف، وإن كان تكيفاً فارغاً في نظر عمر المأزوم .

  • زينب (الزوجة): ترمز إلى الواقع اليومي، الاستقرار، والمحاولة الصامتة للتكيف. تمثل المرأة القوية التي تحاول مساعدة زوجها عبثاً. حضورها المستمر يذكر عمر بثقل الواجبات الاجتماعية والقيود التي يحاول الهروب منها .

جدول يلخص الدلالات الرمزية للشخصيات الرئيسية:

الشخصيةالرمزية والدلالة
عمر الحمزاويالإنسان المعاصر المأزوم، الصراع الوجودي، الإفلاس المعنوي، البحث عن المعنى.
بثينةالماضي المثالي لعمر، الموهبة الفنية (الشعر) المهملة، براءة المبادئ.
عثمان خليلالماضي الثوري، المبادئ الاشتراكية، التضحية، خيانة المُثل بعد الثورة.
مصطفى الميناويالانتهازية، التكيف السطحي مع الواقع، التخلي عن العمق الفني والفكري.
زينبالواقع اليومي، الاستقرار الأسري، القيود الاجتماعية، المحاولة الفاشلة للاحتواء.

٥. البناء الفني والتقنيات السردية: تعقيد الذهن على حساب الحدث

تمثل "الشحاذ" تحولاً جمالياً كبيراً في أسلوب محفوظ، حيث يهيمن الداخل الذهني والنفسي للبطل على الحدث الخارجي التقليدي.

  • الزمن السردي المتشظي: ينهار الخط الزمني التقليدي (ماضي-حاضر-مستقبل) لصالح زمن نفسي/ذهني تتحكم فيه حالة البطل:

    • الماضي: يستحضره عمر عبر الومضات الارتجاعية (Flash-Back) كسبب للأزمة وكرمز للخيانة والضياع ("الحق أني لا أحب الماضي") .

    • الحاضر: يُختبر كزمن من الألم والعلة ("ما أحلى كلّ زمان باستثناء الآن")، وهو زمن تختلط فيه اليقظة بالأحلام والهلاوس.

    • المستقبل: يُستشرف بوصفه فضاءً من العبث والضياع ("سوف تفقد الوزن في النهاية وتسبح في الفضاء... ولن يكترث لك أحد") .

    • تقنيات زمنية: استخدام مكثف لـ إيراد اللواحق (توقع النهايات) وإيراد السوابق (استرجاع الماضي) والتواتر (تكرار أحداث أو أفكار) والديمومة (التلاعب بسرعة الإيقاع السردي بين الإبطاء والعجلة) .

    • رمزية الفصول والأوقات: الفجر (البداية، النشوة الخيالية)، النهار (الواقع والواجبات المكروهة)، الليل (التجارب الحسية والروحية)، الغروب (النهاية، الفشل). الفصول: الربيع (ازدهار التجارب)، الخريف (إثمار/انحدار)، الشتاء (الإفلاس والموت الرمزي) .

  • الحوار الداخلي المهيمن: يغلب على السرد حوار عمر الداخلي مع نفسه، وتيار وعيه المتدفق بالأفكار، التساؤلات، المخاوف، والهلاوس. هذا الحوار هو الأداة الرئيسية لكشف الأعماق النفسية وتعرية العجز عن التعبير عما بداخله أمام صمت الواقع أو عدم تفهم الآخرين ("بل لا يُسمع لي صوت") .

  • البنية الدائرية (الحلقة المفرغة): تبدأ الرواية وتنتهي في نفس المكان: العيادة الطبية. ترمز هذه الدائرية إلى فشل رحلة البحث، إلى استحالة الهروب من الأزمة الوجودية، وإلى العودة إلى نقطة الصفر المحبطة. حركة الأحداث تنمو في اتجاه واحد (مسار عمر) لكنها تعود لتنغلق على نفسها: "وضعيّة الابتداء : (انطلاق). زيارة الطبيب... وضع الختام : (فشل)... عمر محمولا إلى العيادة وهو جريح" .

  • الرمزية المكثفة: تتحول عناصر كثيرة إلى رموز:

    • المرض/الخمود: الأزمة الوجودية، فقدان المعنى.

    • الشحاذ: ليس شخصية، بل هو حالة عمر نفسه - الإفلاس المعنوي، التطلع الدائم لما لا يملك (المعنى، النشوة)، العجز.

    • العيادة: فشل العقل المادي (الطب) في علاج أمراض الروح، مكان البداية والنهاية (الدائرية).

    • اللوحة في العيادة: عالم مثالي أو منشود يتطلع إليه عمر، ولكنه يظل بعيد المنال.

٦. الأبعاد الفلسفية والاجتماعية: عبثية الوجود وقمع المجتمع

  • سؤال الوجود المحوري: تطرح الرواية أسئلة الفلسفة الوجودية الأساسية بجرأة: ما معنى الحياة؟ ما الغاية من الوجود في عالم يقود نحو الموت؟ كيف يمكن للإنسان أن يكون حراً ومسؤولاً في عالم يبدو عبثياً؟ .

  • النقد الاجتماعي والسياسي: رغم تركيزها على الداخل، لا تنفصل الرواية عن واقعها. فهي تصور مجتمعاً فاسداً، قمعياً (من خلال تجربة عثمان في السجن)، فاقداً للحرية والعدالة، وهو ما يُعمّق أزمة البطل ويغذي شعوره بالغربة والعزلة واليأس من إمكانية التغيير .

  • أزمة المثقف: عمر الحمزاوي هو نموذج للمثقف الذي شارك في حلم التغيير (ربما في ثورة 1952 أو ما قبلها)، ثم وجد نفسه منسجماً مع النظام الجديد (أو متكيفاً معه) ومرتاحاً مادياً (بورجوازياً)، لكنه يدفع ثمن هذا التكيف والاندماج في النظام بفقدان روحه ومعنى وجوده. إنها أزمة الخيانة للمُثل والانغماس في المادية الجوفاء .

٧.  موقع "الشحاذ" في مسيرة محفوظ وخلود رسالتها

"الشحاذ" ليست مجرد رواية عن أزمة فرد؛ إنها تشريح لوضعية الإنسان الحديث في عالم تسوده المادية وتغيب فيه الإجابات الجاهزة عن الأسئلة الكبرى. رغم تشاؤمها الظاهري، فهي تحتوي على دعوة ضمنية للمواجهة وعدم الاستسلام للخمود واليأس، و"اقتحام الخطر" كما يشير أحد التحليلات .

فنياً، تمثل الرواية قفزة نوعية في كتابة نجيب محفوظ، حيث أبدع لغة سردية تليق بتعقيد الموضوع، مزجاً بين الفصحى والعامية أحياناً، واستخدم الرمزية والإيحاء ببراعة فائقة لتجاوز المباشرة. إنها رواية "الصوت الواحد" التي تختزل تاريخاً من الآلام والأحلام البشرية في صوت عمر الحمزاوي المأزوم .

عبر عقود من صدورها، حافظت "الشحاذ" على أهميتها وقدرتها على الحوار مع القارئ لأنها تتناول إشكاليات إنسانية جوهرية تتجاوز حدود الزمان والمكان: البحث عن المعنى، صراع الذات مع نفسها ومجتمعها، وألم الوجود في عالم يبدو غريباً وعدواً أحياناً. إنها شهادة محفوظ الخالدة على عبقرية الأدب في تعرية أعماق النفس البشرية وقلقها الوجودي الأزلي، مما يجعلها عملاً يستحق القراءة المتأملة مرة تلو الأخرى


إرسال تعليق

0 تعليقات