دعاء الكروان

 


 دعاء الكروان لطه حسين


 رواية "دعاء الكروان" (1950) للأديب المصري العملاق طه حسين (1889-1973) تعد واحدة من أهم الروايات الواقعية في الأدب العربي الحديث، وأكثرها إثارة للجدل والأسى. تدور الرواية في إطار تراجيدي عميق، تستكشف ثيمات العدالة الاجتماعية، الصراع الطبقي، انتهاك الكرامة الإنسانية، ثأر المرأة المقهورة، وصراع الأجيال بين القيم التقليدية المتسلطة والقيم الإنسانية الحديثة. تقدم الرواية نقداً لاذعاً للمجتمع الريفي المصري في النصف الأول من القرن العشرين، خاصةً استغلال الإقطاعيين للفلاحين وانتهاكهم لحقوق المرأة.

الإطار المكاني والزماني والشخصيات الرئيسية

  • المكان: قرية مصرية ريفية (تتجلى فيها صورة المجتمع الزراعي التقليدي بكل طبقاته).

  • الزمان: فترة زمنية غير محددة بدقة، لكن السياق يشير إلى النصف الأول من القرن العشرين، حيث بقايا الإقطاع والاستعمار الإنجليزي.

  • الشخصيات الرئيسية:

    • آمنة: البطلة المأساوية. فتاة ريفية جميلة، فقيرة، طيبة القلب، ذات إرادة قوية لكنها محاصرة بقسوة المجتمع وطغيان السلطة. تمثل الضحية الأبدية والكرامة المهدورة.

    • حسين (أخو آمنة): الشاب المتعلم الذي عاد من المدينة (القاهرة) محملاً بأفكار جديدة عن الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. يمثل صوت العقل والحداثة والتمرد على الظلم. هو الراوي الرئيسي للأحداث.

    • سيد عبد التواب: الإقطاعي الثري، صاحب الأرض والنفوذ المطلق في القرية. متسلط، متغطرس، لا يراعي أي حدود أخلاقية أو إنسانية في سعيه لإشباع رغباته. يمثل الاستبداد الطبقي والانحطاط الأخلاقي المتستر خلف المال والسلطة.

    • أبو آمنة: الأب الضعيف، المستسلم لقدره وللسلطة المطلقة للسيد. يعاني من العجز والفقر، مما يجعله عاجزاً عن حماية ابنته. يمثل حالة الخضوع والقهر التي يعيشها الفلاحون.

    • أم آمنة: الأم التي تعرف الشر الذي يحيط بابنتها ولكنها عاجزة عن فعل شيء سوى الصمت والبكاء. تمثل معاناة الأمومة في ظل الظلم.

    • محسن: ابن سيد عبد التواب. شاب متعلم أيضاً لكنه ضعيف الشخصية، يخضع لإرادة أبيه المستبدة، ويعاني من صراع داخلي بين مشاعره تجاه آمنة وخوفه من والده. يمثل الضمير المعذب الذي لا يقوى على المواجهة.

    • نفيسة: زوجة سيد عبد التواب. امرأة تعيسة، تعيش في قصر فخم لكنها محطمة نفسياً بسبب سلوك زوجها الفاسد وإذلاله لها. تمثل الضحية الأخرى للنظام الأبوي الفاسد.

حبكة الرواية (سرد الأحداث بالتفصيل)

  1. العودة والاستقرار: يعود حسين إلى قريته بعد سنوات من الدراسة في القاهرة، ليجد أسرته (والديه وأخته آمنة) تعيش في فقر مدقع وفي خوف دائم من سيد القرية، عبد التواب.

  2. ظهور الشر: يبدأ سيد عبد التواب في إظهار اهتمام غير لائق بآمنة، مستغلاً فقر أسرتها وضعف أبيها. يستدعي أباها للعمل في قصره ويبدأ في التحرش بآمنة علناً وبشكل وقح، معتمداً على سلطته المطلقة التي تجعل الجميع، بما فيهم والد آمنة، عاجزين عن الاعتراض.

  3. العجز واليأس: يحاول حسين، المحمّس بأفكار الحرية والعدالة، التصدي لهذا الظلم. يناقش والده بغضب، لكن الأب يرد عليه بالعجز والقبول بالأمر الواقع خوفاً من بطش السيد وفقدان مصدر رزقه الوحيد. تحاول الأم تحذير ابنتها، لكن آمنة نفسها تشعر بالحصار والرعب.

  4. الانتهاك: تصل المأساة إلى ذروتها الأولى عندما يغتصب سيد عبد التواب آمنة في بيته، مستغلاً وجودها لحاجة والدها. تمثل هذه اللحظة نقطة التحول الكبرى في الرواية، حيث تُكسر كرامة آمنة وتتحطم نفسيتها.

  5. الصمت والعار: تعود آمنة إلى البيت في حالة صدمة ورعب. تفضح نظرات الجيران وحتى نظرات أخيها حسين (التي تشعرها بالعار أكثر) الجريمة دون كلام. يعم الصمت على البيت، صمت مليء بالألم والغضب المكبوت والعار الاجتماعي الذي يقع على الضحية لا الجاني.

  6. التمرد الأول (حسين): ينفجر حسين غضباً. يتوجه إلى بيت السيد لمواجهته ويثور عليه ويشتمه. لكن مواجهته تنتهي بهزيمته أمام جبروت السيد وحراسه، ويتم طرده بطريقة مهينة. تعكس هذه المواجهة صراع القوة غير المتكافئ بين الفرد والمؤسسة الفاسدة (الإقطاع).

  7. الاغتراب والرفض: تشعر آمنة بالاغتراب عن نفسها وعن المجتمع. ترفض أي حديث عن الزواج، خاصة عندما يتقدم محسن (ابن السيد) الذي يكن لها مشاعر حب حقيقية، لخطبتها. رفضها ليس لمحسن نفسه، بل رفض لكل ما يمثله: اسم أبيه، العائلة، والنظام الاجتماعي الذي أذلها.

  8. المحاولة اليائسة (محسن): يحاول محسن التوسط لدى والده، طالباً منه السماح بزواجه من آمنة كتعويض وطريقة لإصلاح ما أفسده. لكن السيد الأب يرفض رفضاً قاطعاً ومهيناً، معتبراً آمنة مجرد "لعبة" لا تستحق أن تكون زوجة لابنه، ويصر على استمرار علاقته بها.

  9. الانكسار والهروب: تصل آمنة إلى حافة الهاوي. تجد نفسها محاصرة من كل جانب: من السيد الذي يطاردها، من المجتمع الذي يتهمها، ومن العجز الذي يلف أسرتها. تهرب من البيت ليلاً، تاركةً رسالة غامضة.

  10. البحث والاكتشاف المأساوي: يبدأ حسين في البحث عنها بقلق بالغ. يتبع صوت طائر الكروان الحزين الذي يتردد صداه في الليل، وهو الصوت الذي ارتبط دائماً بآمنة وحزنها. يجدها أخيراً عند البئر خارج القرية، في لحظة يأس نهائية.

  11. الانتحار (دعاء الكروان): في المشهد الأكثر قوة ورمزية في الرواية، تلقى آمنة بنفسها في البئر، مُنهية حياتها. تحول فعلها اليائس هذا إلى احتجاج صارخ ضد الظلم والقهر الذي تعرضت له. صرختها الأخيرة، أو "دعاءها"، تذوب في صوت طائر الكروان الحزين الذي يظل يردد نداءه في الليل، رمزاً أبدياً للألم والظلم الذي لا ينتهي. يشهد حسين هذه اللحظة المروعة.

  12. الانتقام (الثأر): يتحول حزن حسين إلى غضب عارم ورغبة جامحة في الثأر لأخته. ينتظر الفرصة، وعندما يجد سيد عبد التواب وحيداً في الصحراء، يطلق عليه الرصاص ويقتله.

  13. المواجهة مع النظام (الشرطة): يُلقى القبض على حسين. في المحكمة، يحاول أن يشرح دوافعه: دفاعه عن شرف أخته المهدور وكرامتها المسلوبة. يشير إلى أن المجتمع كله شريك في جريمة السيد بسبب صمته وخضوعه. يرفض القاضي والجمهور في البداية فهم دوافعه الأخلاقية، مراهنين على سطوة المال والسلطة السابقة للسيد.

  14. الضمير المستيقظ (محسن): في لحظة حاسمة، يقف محسن شاهداًَ. على عكس ما هو متوقع، لا يشهد ضد حسين بل يروي الحقيقة كاملة عن فساد أبيه وجريمته بحق آمنة وعن دوافع حسين المشروعة. شهادته هي شهادة الضمير الإنساني الذي انتصر أخيراً على الولاء الأعمى والعرف الاجتماعي الفاسد.

  15. النتيجة والخلاص النسبي: على الرغم من إدانة حسين قانونياً للقتل (ربما بالإعدام أو السجن الطويل)، إلا أن الرواية تنتهي بإحساس بالخلاص المعنوي. لقد انتصرت الحقيقة، وتم فضح فساد سيد عبد التواب، ونجح حسين ومحسن في تحطيم جدار الصمت والخوف. موت آمنة وثأر حسين أصبحا "دعاء الكروان" الذي يظل يتردد، تذكيراً أبدياً بثمن الظلم وضرورة التمرد ضده.

الثيمات الرئيسية والرموز في الرواية

  1. الصراع الطبقي والظلم الاجتماعي: تُجسد الرواية الصراع بين طبقة الإقطاعيين المالكين (سيد عبد التواب) الذين يملكون الأرض والمال والنفوذ المطلق، وطبقة الفلاحين المعدمين (أسرة آمنة) الذين يعيشون في خوف وذل ويسحقهم استغلال السيد. الظلم هنا ليس اقتصادياً فحسب، بل أخلاقي وجسدي (اغتصاب آمنة).

  2. اضطهاد المرأة وثأرها: آمنة هي النموذج الأبرز للمرأة المقهورة في مجتمع أبوي ذكوري. جسدها وكرامتها تُعتبران ملكية يمكن انتهاكها من قبل صاحب السلطة. رفضها للزواج من محسن ثم انتحارها هما شكلان من أشكال الثأر الصامت واليائس. موتها هو اتهام قوي للمجتمع.

  3. الصمت والتواطؤ الاجتماعي: صمت الأب، صمت الأم، صمت الجيران، وحتى الصمت الأولي لمحسن، كلها تعكس تواطؤ المجتمع الضمني مع الظالم خوفاً أو طمعاً أو خضوعاً للأعراف البالية. الرواية تنتقد هذا الصمت باعتباره ركيزة أساسية لاستمرار الظلم.

  4. صراع الأجيال والقيم: يمثل حسين (المتعلم في المدينة) جيلاً جديداً يحمل قيماً مختلفة: الكرامة الإنسانية، العدالة، الحق في المقاومة. صدامه مع والده (الجيل القديم المتمسك بالخضوع والخوف) يعكس هذا الصراع. محسن أيضاً يمثل جيلاً جديداً محاصراً بتراث فاسد.

  5. العجز الإنساني أمام القوة العمياء: تعرض الرواية مراراً لعجز الأفراد الطيبين (آمنة، أبوها، أمها، حسين في البداية، محسن في البداية) أمام قوة السيد العمياء والمتمثلة في المال والسلطة والرجال. هذا العجز يدفع إلى اليأس ثم إلى التمرد العنيف.

  6. الكرامة الإنسانية: هي الثيمة المحورية. اغتصاب آمنة هو انتهاك صارخ لكرامتها. صراخ حسين وثأره هو دفاع عن هذه الكرامة. شهادة محسن هي اعتراف بقيمتها. الرواية تطرح سؤالاً جوهرياً: ما قيمة الإنسان إذا سُلبت كرامته؟

  7. العدالة بين القانون والأخلاق: الرواية تبرز الفجوة بين العدالة القانونية (التي قد تحكم على حسين) والعدالة الأخلاقية (التي تبرر فعلته). شهادة محسن هي محاولة لسد هذه الفجوة.

  8. الرمزية:

    • الكروان: الطائر ذو الصوت الحزين هو الرمز الأقوى في الرواية. يرتبط بآمنة وحزنها، ثم يصبح تجسيداً لروحها بعد موتها، وصرخة احتجاج دائمة ضد الظلم. "دعاء الكروان" هو نداء الضمير الإنساني الذي لا يموت.

    • البئر: مكان النهاية المأساوية لآمنة، رمز للهاوية واليأس، ولكنه أيضاً رمز للتطهر (بالماء) والخلاص من العذاب.

    • الصحراء: مكان اغتيال السيد، رمز للعزلة والموت، ولكن أيضاً مكان تنفيذ العدالة البدائية خارج إطار المجتمع الفاسد.

    • القصر: رمز للقوة والثروة المنفصلة عن الأخلاق، والفساد المستتر خلف الجدران الفاخرة.

الأسلوب والبناء الفني

  • الواقعية: تقدم الرواية صورة واقعية قاسية للمجتمع الريفي المصري، بفقرائه وإقطاعييه، بعاداته وتقاليده القمعية، وبصراعاته الطبقية.

  • التراجيديا: بناء تراجيدي كلاسيكي، حيث البطلة (آمنة) ضحية لقوى أكبر منها (السيد، المجتمع، الفقر)، تنتهي بهلاكها، لكن هذا الهلاك يحمل في طياته اتهاماً ويثير رثاءً وخوفاً (الخوف من استمرار الظلم) وتطهيراً (الكاثاريسيس) للقارئ.

  • الراوي: يستخدم طه حسين الراوي العليم الذي يخبرنا بالأحداث، لكنه يعتمد بشكل كبير أيضاً على الراوي المشارك (حسين) الذي يروي معظم الأحداث بضمير المتكلم، مما يضفي مصداقية وعاطفية عميقة على السرد، خاصة في وصف مشاعره ومعاناته ومعاناة أخته.

  • الحوار: حيوى ويعكس شخصيات المتحدثين وطبقاتهم الاجتماعية ومشاعرهم (وقاحة السيد، عجز الأب، حزن الأم، غضب حسين، حيرة محسن).

  • اللغة: لغة عربية فصيحة ولكنها واضحة ومباشرة، تتناسب مع الواقعية والطابع التراجيدي. تستخدم بعض المفردات المحلية (لكن ليس بكثافة) لإضفاء جو الريف.

  • الإسقاط التاريخي/الاجتماعي: يمكن قراءة الرواية كإسقاط على مجتمع مصر ما قبل ثورة 1952، حيث كان نظام الإقطاع سائداً، وكصرخة ضد الظلم الاجتماعي والسياسي السائد آنذاك.

 تأثير الرواية ورسالتها الخالدة

"دعاء الكروان" ليست مجرد قصة حزينة عن فتاة اغتُصبت وانتحرت. إنها لوحة فنية-اجتماعية-نفسية عميقة، ونقد جذري للمجتمع. إنها صرخة مدوية ضد:

  • استغلال القوي للضعيف.

  • انتهاك كرامة الإنسان، خاصة المرأة.

  • تواطؤ الصمت والخوف.

  • تحويل الضحية إلى مجرم في نظر المجتمع.

  • الفجوة بين القانون الصارم والعدالة الأخلاقية.

موت آمنة ليس هزيمة كاملة. إنه الفعل الذي كسر حلقة الصمت والخوف. ثأر حسين وشهادة محسن هما بداية صحوة الضمير. صوت الكروان الذي يظل يتردد هو تذكير دائم بأن الظلم يولد الألم، والألم يولد الاحتجاج، والاحتجاج، مهما كان يائساً أو عنيفاً، هو البذرة التي قد تنبت منها العدالة يوماً ما.

رواية "دعاء الكروان" تظل عملاً أدبياً خالداً، مؤلماً بقدر ما هو ضروري، لأنه يمسّ أوتاراً حساسة في النفس البشرية والمجتمع الإنساني، أوتار الكرامة، الظلم، والصراع الأبدي من أجل الحرية والعدالة. صوت الكروان الحزين ما زال يدوي في أذن من يقرأها، داعياً إلى يقظة الضمير الإنساني


أقرأ أيضاَ

ملخصات كل أعمال الاديب والمفكر طة حسين

إرسال تعليق

0 تعليقات